كتب داود رمال في “نداء الوطن”:
يبدو أن الموقف الذي أطلقه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون حول استعداد لبنان للتفاوض على غرار مفاوضات الترسيم البحري مع إسرائيل هو تعبير عن رؤية استراتيجية متكاملة تهدف إلى وضع لبنان في موقع المبادر لا المتلقي، وفي دائرة القرار لا على هامش الأحداث.
فالرئيس عون، وفق أوساط سياسية مطلعة، قرأ مبكرًا المتغيرات التي ستلي إنجاز اتفاق غزة، واستشرف مرحلة من الضغوط الدبلوماسية المركّبة التي ستُمارس على لبنان من أكثر من محور إقليمي ودولي، خصوصًا في ظل تراجع منسوب الاهتمام العسكري وارتفاع منسوب البحث عن حلول سياسية شاملة لملفات المنطقة، ولبنان في طليعتها.
من هذا المنطلق، جاء إعلان الاستعداد للتفاوض بمثابة موقف استباقي يُحصّن الموقف اللبناني في مواجهة أي محاولة لفرض حلول من الخارج، ويعيد التذكير بأن لبنان قادر على أن يكون شريكًا في صناعة التسويات لا مجرد متفرّج عليها. فالمناخ الدولي الذي أفرزته قمة شرم الشيخ الأخيرة كشف بوضوح أن مرحلة ما بعد غزة ستكون مختلفة، وأن هناك توجهًا لإعادة ترتيب أولويات المنطقة على أساس الاستقرار الدائم لا الهدن الموقتة. وهذا ما استدعى مبادرة رئاسية لبنانية تكسر الجمود وتُعيد وضع لبنان على الخريطة السياسية الجديدة كطرف يمتلك القدرة على طرح الحلول انطلاقًا من التزامه بقرارات الشرعية الدولية، وخصوصًا القرار 1701 واتفاقية وقف الأعمال العدائية، كإطار مرجعي جامع يمكن البناء عليه لتثبيت معادلة الأمن والسيادة.
وفي ظل عدم الوضوح الداخلي حول الموقف الرئاسي بين من يرى فيه مخاطرة سياسية وبين من يعتبره خطوة واقعية وشجاعة، تشير مصادر دبلوماسية غربية في بيروت لـ “نداء الوطن” إلى أن “موقف الرئيس عون تميّز بالجرأة والجدية والمسؤولية، إذ وضع الدولة اللبنانية في موقع يتيح لها التحكم بإيقاع المرحلة المقبلة بدل أن تكون رهينة ضغوط الخارج وتناقضات الداخل، وهذا الموقف يسجَّل لصالح لبنان على المستوى الدولي، لأنه يُظهر أن هناك قيادة رسمية تفكر بعقل الدولة وتتحرك ضمن أطر القانون الدولي، في وقت تمارس إسرائيل سياسة “الصمم السياسي والعسكري”، رافضةً أي مبادرة للتهدئة أو الدخول في تفاوض جدي يحدّ من التصعيد المتواصل”.
أما في العمق، فإن التحركات الدولية الآتية ستتمحور حول ملف حصرية السلاح بيد الدولة، وهو العنوان الذي ستنطلق منه الضغوط المقبلة تحت شعار تعزيز سيادة الدولة اللبنانية واستكمال تنفيذ القرار 1701 بكامل مندرجاته. وتؤكد المصادر “أن المجتمع الدولي بدأ يربط بين مسألة السلاح وبين أي مسار سياسي مقبل، وأن الانتخابات النيابية القادمة ستكون موضع رصد دقيق، حيث يُتوقع أن تُطرح بوضوح مسألة ضرورة إجراء الاستحقاق في بيئة سياسية خالية من أي سلاح غير شرعي، وهو ما سيشكّل التحدي الأبرز أمام الحكومة اللبنانية وأجهزتها التنفيذية”.
وفي السياق نفسه، تكشف المعلومات أن العدّ التنازلي لمرحلة تفعيل قرارات الحكومة المتعلقة بحصرية السلاح وبسط سلطة الدولة سيبدأ فعليًا مع وصول السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى إلى بيروت. هذا الاسم الذي يُوصَف في الأوساط الدبلوماسية بأنه “سفير فوق العادة” نظرًا لعلاقته الشخصية الوثيقة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، سيكون محوريًا في إدارة المرحلة اللبنانية المقبلة، مستفيدًا من تفويض غير مسبوق ومن شبكة علاقات مؤثرة مع القوى الدولية المعنية بالملف اللبناني. وتشير المعطيات إلى أن عيسى سيعمل على الدفع باتجاه مسار تفاوضي سريع موازٍ لتنفيذ اتفاقية وقف الأعمال العدائية، بحيث يتم الانتقال المنظم من المسار العسكري إلى المسار السياسي ضمن جدول زمني واضح وليس مفتوحًا، وتحت رعاية وضمانات دولية تواكب كل خطوة.
انطلاقا من ذلك، يمكن القول إن لبنان يقف فعليًا على أبواب مرحلة جديدة، عنوانها الانتقال من منطق إدارة الأزمات إلى منطق إدارة الحلول. والموقف الرئاسي الأخير لم يكن سوى إشارة الانطلاق لمسار طويل وشائك، لكنه ضروري لانتشال لبنان من حالة الانتظار والتبعية إلى حالة المبادرة والمشاركة في صياغة التوازنات المقبلة. ومع تبلور ملامح النظام الإقليمي الجديد بعد الحرب في غزة، سيكون للبنان دور يوازي حجمه الجغرافي وتاريخه السياسي، شرط أن يترجم داخليًا ما يعلنه خارجيًا، وأن يثبت أن الدولة وحدها هي الممر الإلزامي إلى الاستقرار والسيادة والسلام.