كتب شارل جبّور في “نداء الوطن”:
تكمن أهمية الموقف الذي اتخذه رئيس الجمهورية بدعوته إلى التفاوض مع إسرائيل، وتأكيده “أن لغة التفاوض أهم من لغة الحرب التي رأينا ماذا فعلت بنا”، في كسره للمحرّمات وللترهيب الذي مارسه “حزب الله” على مدى عقود، وفي رفع يده عن هذا الملف الذي يعتبره من حقه واختصاصه. فبعد أن خسر عسكريًا وبالقوة ورقة الحدود بين لبنان وإسرائيل، وخروج ما يسمى “المقاومة” من جنوب الليطاني، شعر “الحزب” أن ورقة التفاوض بدأت تفلت من يده، وهذا ما يفسِّر كتابه الموجّه إلى الرؤساء الثلاثة بعنوان أوحد: “الأمر لي”.
وأيقن “حزب الله” أن هزيمته العسكرية ستؤدي إلى خسارته القدرة على التحكُّم بورقة العلاقة مع إسرائيل التي ورثها عن حافظ الأسد، الذي كان قد ربط المسار اللبناني بالمسار السوري بشخصه، بحيث إن السلام بين بيروت وتل أبيب يمر في دمشق. وبعد خروج الأسد من لبنان، تحولت هذه الورقة إلى ورقة إيرانية بامتياز، عززت من خلالها طهران حضورها ودورها وأوراقها، وهي من الأوراق الثمينة كونها تدخل في صميم الأولويات الأميركية، وقد لمس الحزب أهميتها عندما أدار محركات التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية.
لم يستوعب “حزب الله” بعد أن أي خسارة عسكرية تجرّ خسائر سياسية. وليس صحيحًا أنه قادر على التحكُّم بحجم التنازلات التي يقدمها، فبعد اضطراره إلى انتخاب الرئيس جوزاف عون، فوجئ بخطاب قسمه، ولم يكن يتوقع تكليف الرئيس نواف سلام ولا توازنات حكومته، ولا البيان الوزاري، ولا قرار الخامس من آب القاضي بنزع سلاحه. وهو يظن، بكتابه الأخير، أنه وضع ثلاثة خطوط حمر أمام السلطة: لا لتسليم السلاح، لا للتخلي عن ما يسمى “المقاومة”، لا للتفاوض مع إسرائيل.
وبعد أن تلكأت السلطة في نزع سلاحه واتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية بحقه، في حال واصل الكلام عن “حقه بالمقاومة” خلافًا للدستور والبيانات الوزارية واتفاق 27 تشرين الثاني 2024 وقرار الخامس من آب 2025، بادرت إلى القفز فوق لاء “الحزب الثالثة”، بالدخول على خط المفاوضات، غير أن هذه الخطوة، على أهميتها، بقيت عامة وناقصة، لأنها لم تحدِّد طبيعة هذا التفاوض أهو مباشر أم غير مباشر؟ وما السقف الذي تريد بلوغه: إحياء الهدنة أم السلام؟
وتعاملت معظم الأطراف، في الداخل والخارج، مع خطوة التفاوض على أنها تعويضية للقفز فوق رفضها نزع سلاح “الحزب”، وشكلية لأنها لم تحدِّد الأهداف المرجوة من هذا التفاوض، ولا بل ذهبت بعض الدوائر الخارجية إلى حدّ اعتبارها تمّت بالتواطؤ مع “الحزب”، سعيًا لشراء الوقت وتجنب ضربة حتمية، فتغدو مفاوضات للمفاوضات، على نسق حوار للحوار، لأن من يريد التفاوض فعلًا لا يتبنى أدبيات الممانعة المتعلقة بالصراع مع إسرائيل، ولا يمتنع عن نزع السلاح الذي لا قيمة لأي تفاوض قبل نزعه.
وهنا لا بدّ من طرح التساؤلات التالية: أيهما أولى: المفاوضات أم نزع السلاح؟ وما قيمة المفاوضات لدولة لا تحتكر السلاح؟ وما الجدوى من مفاوضات لدولة لا تسيطر على أرضها؟
إن الأولوية التي لا تعلو عليها أولوية هي قيام دولة فعلية تبسط سيطرتها على أرضها بقواها الذاتية، إذ لا معنى لأي اتفاق إذا لم تكن الدولة تحتكر وحدها السلاح. وهل من حاجة إلى التذكير بأن قوى الأمر الواقع أسقطت الجمهورية الأولى، واتفاقية الهدنة، واتفاق 17 أيار، واتفاق الطائف، والقرارات الدولية 1559، 1680 و 1701، وخطاب القسم، والبيان الوزاري، وقرار 5 آب الحكومي؟ وما قيمة أي اتفاق مع إسرائيل إذا كانت الدولة عاجزة عن ترجمته على أرض الواقع، كما عجزت عن تطبيق دستورها وقراراتها الحكومية؟
ومن يريد التفاوض فعلًا لا قولًا فقط، يردّ على كتاب “حزب الله” ليس في الإصرار على تفاوض مبهم، بل في رفض ما ورد فيه لجهة تمسكه بسلاحه وبما يسمى “المقاومة”، وبالإعلان عن تفاوض مباشر مع إسرائيل بمعزل عن الميكانيزم وتطعيمها بمدنيين وعسكريين. وكل ما عدا ذلك سيفسّر بأنه إما تواطؤ مع “الحزب”، وإما محاولة من الرئاسة الأولى لشراء الوقت بخطوات شكلية تجنبها المواجهة مع “الحزب” وترفع عنها ضغط الولايات المتحدة الأميركية.
ولم يكتفِ “حزب الله” في كتابه برفض المفاوضات، بل أصرّ على السلاح و”المقاومة”، في نعي للمفاوضات قبل أن تبدأ، فيما تكمن مشكلة إسرائيل مع لبنان في وجود دولة شكلية وضعيفة وعاجزة عن منع استخدام أرضها من قبل منظمات مسلحة وإرهابية. وبالتالي، ما قيمة المفاوضات لدولة فاقدة السيطرة على أرضها؟ وهل باستطاعتها أن تضمن تنفيذ أي اتفاق مع إسرائيل، أكان هدنة أم سلامًا؟ وهل يوقف جيش الدفاع الإسرائيلي عملياته العسكرية في لبنان، إذا لم تستعد الدولة سيطرتها الكاملة على أرضها؟
إن الأولوية هي لقيام دولة فعلية تحتكر وحدها السلاح، وتبسط سيطرتها على أرضها، وتمنع الأعمال الإرهابية من حدودها. والتجربة خير دليل على أن قوى الأمر الواقع أسقطت كل ما توصّل إليه لبنان في العقود الخمسة الأخيرة. وعليه، لا قيمة لأي مفاوضات تعجز السلطة عن ترجمة نتائجها، إلا إذا كان الهدف تفاوضًا للتفاوض، بانتظار أن “يخلق الله ما لا تعلمون”.
وإذا كانت السلطة ما زالت مترددة في نزع السلاح غير الشرعي ومصرّة على التفاوض، فإنها مدعوة، تعبيرًا عن جديتها بأنها لا تناور وتشتري الوقت، إلى رفع ثلاث نعم في مواجهة اللاءات الثلاث التي رفعها “الحزب”: نعم للتفاوض المباشر مع إسرائيل وعلى أعلى المستويات، نعم لنزع سلاح “حزب الله” الذي يمنع قيام دولة لبنانية فعلية ويُبقي لبنان ساحة لإيران، ونعم لإسقاط السردية الممانعة واستبدالها بسردية جديدة عنوانها أن المواجهة بين لبنان وإسرائيل لم تكن يومًا قرارا من الدولة اللبنانية، بل كانت دومًا قرار دول ومنظمات ومجموعات صادرت قرار الدولة اللبنانية.




