موقع دعم الإخباري

أخطر من نزع السلاح!

كتبت مريم مجدولين اللحام في “نداء الوطن”:

أفرزت اللحظة التاريخية غير المنتظرة لترؤس «الحزب إلهيين» طابور المطالبة بإعادة الإعمار من المال العام، هذيانًا غير مسبوق: من قاتل باسم الاستغناء عن الدولة، يستنجد اليوم بخزينتها العاجزة لترميم ما هدمه. فهل «حزب الله» محاصر ماليًا فعلًا أم يدير الحصار لمصلحته؟ لماذا الإصرار على لعب دور الضحية الاقتصادية، فيما يعيش قادة التمويل في حزبه في بحبوحة مالية فاضحة وعلنية داخل لبنان، بلا ملاحقة قضائية أو تحقيقات بمصادر أموالهم الفاحشة، بالرغم من إدراج أسمائهم على لائحة العقوبات الأميركية؟ وهل الشفافية المالية أخطر على «الحزب» من تسليم السلاح؟

المقطوع به، والمعلوم، من سياسة «حزب الله»، أن تشكيله البنيوي داخل المعادلة اللبنانية يجمع بين مفهومين، «التنظيم الخارج عن الشرعية» و»النظام الموازي الحيّ على نفقة الدولة». وكلاهما منفصل عن الرقابة المالية الرسمية، قائم على شبكات تمويل خارجي وتحويلات نقدية معقّدة تمتد من طهران إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية… وما التحوّل المستجدّ في خطابه الذي انتقل من شعار «نحن الدولة ولك» إلى «الدولة مسؤولة عنّا» إلا محاولة بائسة تودّ إعادة تدوير صورته كضحية جماعية شيعيّة لا كفاعل مسؤول. في حربه الكربلائية، يُعلّمنا «حزب الله» درسًا مهمًا، أن المظلومية أشدّ المشاعر رصًّا للصفوف، وأن الجراح أكثرها قدرة على استعادة التعاطف الداخليّ. لذا، خطاب الحصار والحرمان أفضل من الاعتراف بامتلاكه موارد مالية ضخمة وواجهات مالية في خمس قارات.

وما أدراك ما الشفافية

الشفافية المالية أمام الدولة تعني فتح الدفاتر، دفاتر تحمل أسرار العلاقة بين الأيديولوجيا والمال، بين إيران ولبنان، بين «المقاومة» والمافيا. الشفافية أخطر من نزع السلاح لأنها تكشف مصدره. يمكن التفاوض على السلاح أما المال فيكشف شبكة الارتباطات التي تبني «حزب الله» كقوة، من المصارف إلى شركات الأوفشور، إلى رجال الأعمال الذين يُقدّمون لـ «حزب الله» الولاء والغطاء. السلاح يحتاج تمويلًا، وبلا تمويل لا يكون هناك سلاح. ثم إن أي تمويل من الدولة والمال العام، يجدد به ولاء القاعدة الشعبية من دون أثر مكتبي وعبر أقنية موظفي «الثنائي» في مؤسسات الدولة، أهمها تلك المعنية بإعادة الإعمار. بهذا المعنى، لا يكون الإعمار ضرورة إنمائية فحسب بل عملية ترسيخ للنفوذ.

في ذلك، يُنبئنا خطاب «حزب الله» المطالب بإعادة الإعمار من المال العام لصالح المواطنين دافعي الدم والضرائب على حدّ تعبيره، أن «الحزب» سيعتمد من الآن فصاعدًا على سردية «الحق الممنوع عنكم» لغايتين أساسيتين، الأولى تهدف لترميم صورته داخليًا كضحية حصار يعزز به التضامن المذهبي الشيعي تحديدًا حوله، خصوصًا في جو مقارنته بـ «لبنانية» حركة «أمل». والثانية، توجيه رسائل للخارج بأن أي ضغط مالي لن يؤدي إلى انهياره لكنه يخلق أزمة اجتماعية غير ذي جدوى في بيئته وتهدّد شرخًا أهليًا.

من بديهيات السياسة التسليم بأنه لا سردية تُعتمد بلا لائحة أهداف. وعلى أرض الواقع، «الحزب» لا يعاني من الفقر المفاجئ، بل من اختناق في السيولة العلنية. فالقنوات المالية التي اعتمد عليها لسنوات وفضحتها التحقيقات الأميركية ولوائح عقوبات الخزانة الأميركية المعنية، مثل ناظم سعيد أحمد في تجارة الفن، ومحمد إبراهيم بزي في النفط وغسل الأموال، وعبدالله صفي الدين في الإشراف الكامل وطباجة وتاج الدين في شبكات المخدرات والتجارة الموازية، لا تُستخدم لإعادة الإعمار أو تمويل الخدمات المدنية، بل لتأمين الاستقلال المالي والعسكري والاستخباراتي عن الدولة اللبنانية.

شبكات تُدار خلف ستار «حق الدفاع عن الأرض» وفق مبدأ التوزيع الطبقي، جزء مخصّص للعمليات العسكرية واللوجستية، وجزء يُستثمر في واجهات مالية بين شركات وعقارات ووسائط ماليين ومحامين وقضاة ومسهّلين، وجزء رمزي يُضخّ في مشاريع خدماتية طفيفة داخل البيئة، وإعادة الإعمار لا تدخل في أيّ من هذه الأولويات، لأنها تتطلب شفافية وتوثيقًا ماليًا، وهو ما يتعارض مع طبيعة التمويل غير الشرعي. أي تمويل لإعادة الإعمار يفتح الباب أمام تدقيق دولي محرج للدولة اللبنانية المقصّرة أساسًا في التزاماتها في ملف السلاح، حيث يتفادى قائد الجيش الإشارة إلى «حزب الله» ويشير في تقريره الأول لتفكيك التنظيمات غير الشرعية بـ «المسلحين» أو «المجموعات المُسلّحة».

تطويع رئاسة الحكومة

سياسيًا، يفضّل «حزب الله» أن تتحمّل الدولة أو المانحون الخليجيون والدوليون مسؤولية الإعمار، ليحتفظ هو برأس المال العسكري والمالي غير المراقب قضائيًا أو لدى أي ضابطة تحقيق عدلية. يملك متنفذو «حزب الله» الأموال لكنهم لا يريدون صرفها على البنى التحتية ولا على الناس، لأن ذلك يعادل التنازل عن تفوق «الحزب» المالي الموازي الذي يمنحه القدرة على ابتزاز الدولة من موقع القوة… فإما أن تموّل حكومة نواف سلام إعادة الإعمار أو سنُظهر الفقر كأثرٍ ابتدعه سلام شخصيًا فيكون المكروه الأول لصالح خيار سُنيّ «مطيع» يُستبدل به.

وفي سياق ما تقدّم ذكره، يدمج «حزب الله» صورة العجز المالي ببعض من الصبر والبصيرة، في استراتيجية تمويه تحوّل معاناة مناصريه ومقاتليه إلى أداة سياسية فجّة يُجهّزها للانقلاب على الدولة بحيث تبدأ بإضاءة صورة على صخرة الروشة وتنتهي بإبقاء ثروات قادته خارج نطاق نظر المكلومين والفقراء والمهجّرين من بيوتهم والنازحين إلى مصائر مجهولة. لبّ المسألة أن «حزب الله» لا يريد أن يفضح التقصير أي تفاوت طبقي واضح بين المؤمنين الذين يدفعون حياتهم ثمنًا لتحرير الأرض، وبين المنتفعين رجال السلطة وأعمال التبييض والتخدير. فغنى أولئك، مقابل فقر هؤلاء، يعني الخضوع للسؤال «أنّى لهم هذا يا قائد؟». الشفافية المالية خطرة.

ويمكن القول إن إعادة الإعمار من دون الحاجة للدولة، أخطر على «حزب الله» من نزع السلاح نفسه.

ملاحقة المعاقبين دوليًا

السلاح أداة، أما مال «حزب الله» الأسود، فهو الجهاز العصبيّ الذي يُبقي تنظيم «حزب الله» حيًّا ومترابطًا ومُحصّنًا. إذا نُزع السلاح، لا يخسر «الحزب» شبكته القادرة على إعادة التسلّح. أما كشف المداخيل والمصاريف والشبكات فيُمزق النسيج البنيوي ويفضح المتآمرين على لبنان وعلاقاته الخارجية والداخلية، مع المتخفّين منهم خلف شعارات السيادة في مافيا الدولة العميقة.

السلاح علني ويمكن تبريره بخطاب المقاومة واستباق الحروب والردع والتحرير والشرف وغيره من «العلك المنتج»… وهو خطاب يلقى قبولًا نسبيًا في البيئة الشيعية مثلًا، لكن «حزب الله» لا يستطيع أن يقدّم رواية أخلاقية واحدة تبرّر غسل أموال المخدرات أو تهريب الذهب أو استثمار الأموال في عقارات مشبوهة في بيروت وكوناكري وبروكسل. بكل وضوح نقول، إن السلاح يمكن تبريره بالعقيدة؛ أما المال فلا يمكن تبريره إلا بـ»شُحّ أو حرام»… أي الفساد.

وحدة الساحات العسكرية فشلت، أما وحدة الساحات المالية، فربحت عدة جولات وصولات، جاء أهمها حين وقّع الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأميركية باراك أوباما الاتفاق النووي مع إيران، لاغيًا مشروع كاسندرا (التي كانت تدير تحقيقاته إدارة مكافحة المخدرات الأميركية DEA) فاضحة شبكة المال الأسود لـ «حزب الله»، وكاشفة أن التمويل الإيراني لا يغطّي إلا جزءًا من نشاط «حزب الله»، وأن الجزء الأكبر يأتي من اقتصاد موازٍ ممتد من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا فأوروبا.

من خلال المال يمكن معرفة أيّهم سهّل التحويلات، أي وزارة غطّت الجمعيات، وأي رجال أعمال استفادوا من المنظومة المالية الموازية لـ «حزب الله». التحقيق المالي يُظهر ما إذا كان اقتصاد «حزب الله» متشابكًا مع اقتصاد خصومه المزعومين حتى!

لو خرجت الأرقام إلى العلن، سينكسر وهم المساواة الثورية الخمينية ويظهر «حزب الله» على حقيقته كطبقة أوليغارشية تحكم باسم المقاومة. وهنا يحق للمواطن أن يسأل لماذا لا يلاحق المعاقبون دوليًا؟ لماذا لا يُدقق بأموالهم ومداخيلهم؟

لربما أخطأنا النظر إلى نزع السلاح كإجراء ضروري، ولربما التحقيق المالي هو ما يحتاجه لبنان.

أخبار متعلقة :