كتب وسام أبو حرفوش وليندا عازار في “الراي”:
لم يتطلّب الأمرُ عناءً كبيراً لتفكيكِ «شيفرةِ» الموجة الثانية من الغاراتِ الاسرائيلية التي تستهدف مناطق صناعية في جنوب لبنان، والتي لم يكد أن يَنْجَلي غبارُها حتى تَكَرَّس الانطباعُ بأن البلادَ باتت في قلْب «رمالٍ متحرّكة» يُراد أن يكون التفاوضُ مع تل أبيب وبشروط الأخيرة ومن خلْفها واشنطن، «حبل الخلاص» الوحيد من غَرَقٍ في حربٍ جديدةٍ وعلى قاعدة «اتَعِظوا من غزة».
ورغم مرورِ 48 ساعة على الغارات المروّعة التي نفّذتْها اسرائيل ليل الخميس على المنطقة الصناعية في وادي بصفور – سيناي (شمال الليطاني) وأدّت لتدمير منشآت شركة المجابل العاملية وشركة الكسارات الوطنية بشكل كامل وخزانات الوقود التابعة لمؤسسة مياه الجنوب، فإن لبنان بقي تحت تأثيرها العاصِف نظراً لتوقيتِها كما الرسائل التي ثبّتَتْها تل أبيب من خلالها ووجّهتها إلى «حزب الله» والدولة معاً.
وأحْصَتْ أوساط واسعة الاطلاع 5 نقاط اشتمل عليها «بنك الأهداف الاسرائيلي» وراء ثاني أعنف «الغارات المتسلسلة» منذ اتفاق وقف النار والتي تسبَّبت في شركة المجابل العاملية بتدمير مجبل الباطون ومعمل الزفت وعشرات آليات ضخّ الباطون والجبالات والشاحنات وخزانات المازوت والفيول، وفي منشآت شركة الكسارات الوطنية بـ «مسح» الكسارة ومباني الإدارة والعديد من الشاحنات والجرافات ومولدات الكهرباء، إضافة إلى «حرق» نصف مليون ليتر من المازوت كانت في خزانات وقود تابعة لمؤسسة مياه الجنوب ومخصصة لتشغيل آبار المياه في قرى المنطقة بكاملها.
وهذه الأهداف المتوازية التي تتمحور حول أولوية سحب سلاح حزب الله «الأمس قبل اليوم»، والتي أرادت اسرائيل تظهيرها هي:
– إضافة خط أحمر جديد «بالنار» أمام أي إعمارٍ خصوصاً في جنوب لبنان، عبر ضرْب البنية التحتية واللوجستية لهذا المسار، الذي ما زال يتلمّس طريق انطلاقته، وهو ما كان بدأ بالغارة على المصيلح فجر السبت الماضي بما عُرف بـ «مجرزة» الحفارات والجرافات.
– تأكيد أنّ «الحرب» السياسية الدائرة في لبنان بين «حزب الله» ومعه رئيس البرلمان نبيه بري، وبين حكومة الرئيس نواف سلام حول الإعمار، وضغط الثنائي الشيعي على السلطة التنفيذية لرصْد أموال في موازنة 2026 لبدء الإعمار وإلا «لن تمرّ في مجلس النواب»، ما هو إلا على طريقة «محاربة طواحين الهواء»، لأنّ اسرائيل ليس فقط ستعاود تدمير ما يعاد بناؤه بل لن تسمح بأن يقوم الجنوب وحتى البقاع وربما الضاحية من تحت الأنقاض ما لم يتحقق الهدف من «جبهة لبنان» وهو سحْب سلاح الحزب وضمان أمنها «لمرة واحدة وأخيرة».
– أن الدولة اللبنانية وبناها التحتية ليست بمنأى عن «حلقة النار» عندما يتعلّق الأمر بإعادة الإعمار ونهوض الجنوب، مع «ربط نزاع» ضمني مع أي حرب شاملة جديدة ربما لن توفّر هذه المرة المنشآت التابعة للدولة، باعتبار أنها متلكئة عن تنفيذ ما تعهّدت به لجهة تفكيك الترسانة العسكرية لحزب الله.
– أن مَسار الحلّ في غزة، على التعقيدات الماثلة أمام مرحلته الثانية، مفصولٌ تماماً عن لبنان، ما خلا «تَطابُق» مرتكزات التسوية على قاعدة اجتثاثِ «حماس» عسكرياً (وكف يدها عن أي دور سياسي في إدارة القطاع) وإضافة «قاطرة» جديدة إلى «قطار السلام» أو «الاتفاقات الأمنية».
– أن الدعوةَ إلى التفاوض مع اسرائيل التي وجّهها الرئيس اللبناني العماد جوزف عون الأحد الماضي «لإيجاد حلول للمشاكل العالقة، (…) أما شكل هذا التفاوض فيُحدَّد في حينه»، لا مَفاعيل سياسية ودبلوماسية ولا عسكرية لها، بل أن اسرائيل «أطلقت النار» واقعياً بغاراتِ الخميس – والتي استكملتها أمس باستهداف حفارة على طريق كفردونين – ديركيفا حيث سقط شخص – على هذه الدعوة بوصْفها لا تلبّي تطلّعاتها إلى مفاوضاتٍ مباشرة.
كما أن التصعيدَ المتدرّج اعتُبر إشارةَ اعتراضٍ كبيرة من تل ابيب على ما يتسرّب تباعاً عن أن لبنان الرسمي لم يَخرج من دائرة الدعوة إلى أن توقف اسرائيل أولاً اعتداءاتها وتَنسحب من الأراضي التي أبقتْها تحت الاحتلال جنوباً وتطلق الأسرى وبعدها مفاوضات غير مباشرة، وسط أجواء تفيد أنها كما الولايات المتحدة تدفعان نحو التفاوض المباشر كي يكون إطاراً لمعالجةِ مسألة الانسحاب وأخواته من ضمن مسارٍ متلازمٍ مع سَحْبِ السلاح و«مُمَرْحَل» على غرار اتفاق غزة، وأنهما لا توافقان حتى على وقف الضربات فقط كمدخلٍ لمفاوضات لا تريدها تل ابيب إلا «تحت النار».
ولاحظتْ الأوساط أن الولايات المتحدة واسرائيل تَعتمدان في هذا الإطار سياسة «العصا والجزرة» بحيث إن واشنطن تعتمد ما يشبه «الإغراء» وتغدق الثناءَ على قرارات سحب السلاح وكيفية إدارتها من الرئيس عون، وفق ما جاء على لسان الرئيس دونالد ترامب نفسه قبل أسبوع، في موازاة إغراق بنيامين نتنياهو الجنوب وصولاً إلى البقاع بالغارات والاستهدافات المدمّرة، في ما يَبدو «ديبلوماسية ماء ونار» لترغيب لبنان وترهيبه.
وإذ توقفت الأوساط نفسها عند أنّ غارات يوم الخميس جاءت هذه المرة على وقع دعوة عون (غادر الى الفاتيكان للمشاركة في حفل تقديس المطران أغناطيوس مالويان اليوم) الى التفاوض فيما أتت ضرباتُ المصيلح على وهج ضغوط مكتومة على بيروت لخوض مفاوضاتٍ مباشرة، أشارتْ الى الحِراك الرئاسي الذي كان تكثف الجمعة بين عون ورئيس الحكومة وبين الأخير والرئيس بري بهدف السعي لتوحيد الموقف خلف دعوة رئيس الجمهورية للتفاوض لاستعادة كل الحقوق على غرار مسار المفاوضات غير المباشرة التي أفضت الى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل خريف 2022.
وبرز أمس ما نقلته قناة «العربية / الحدث» عن وجود إجماع رسمي على عدم تفويت «قطار التسويات» الذي تشهده المنطقة حالياً، في ظل مؤشرات إلى أن مجلس الوزراء قد يطرح قريباً ملف التفاوض للنقاش ضمن جدول أعماله، مشيرة إلى «أن الهدنة هي الهدف الأول لمفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل»، و«ان المفاوضات المباشرة ليست مستبعدة» و«ان التفاوض يشمل سحب سلاح حزب الله مقابل اتفاق هدنة وسيكون عبر قنوات عسكرية».
وفي هذا الوقت، بدأ «حزب الله» ما يشبه «الهجوم السبّاق» على مسار التفاوض المباشر، مصوّباً بعنف على دعوات من قوى سياسية ونواب طالبوا بهذا الخيار، وسط اعتقاد الأوساط المطلعة أن الحزب:
– إما يعبّر ضمنياً عن خشيةٍ من أن يُضطر لبنان، من بوابة فتْح باب «الكلام» وإن غير المباشر، للذهاب إلى مفاوضات مباشرة تحت الضغوط، وسط اعتبار أن أي ربطٍ لسلاحه بطاولةٍ على غرار ما حصل مع «حماس» سيعْني «بداية النهاية» لأي إمكان احتواءٍ
لـ «العاصفة» عبر الاحتماء بـ «أُطُرٍ» ناظمة لبنانية، مثل الحوار أو حتى قرارات الحكومة بسحب سلاحه والتي بدا أنه نجح في تخفيف اندفاعتها.
– وإما أنه بتكبير الاعتراض على التفاوض المباشر، «يوسّع الكوع» في اتجاه القبول، وإن اضطرارياً بمفاوضات غير مباشرة، بين لبنان واسرائيل قد لا يكون هناك مفرّ منها لامتصاص «الهجمة» الأميركية نحو «سلام الشرق» التي قودها ترامب شخصياً، وذلك على أمل متغيّر ما يقلب المشهد.
وقال نائب «حزب الله» علي المقداد في هذا الإطار، «إننا إذ ننتظر من الحكومة اللبنانية أن تؤدي واجبها الدبلوماسي والسياسي (في وقف العدوان والإعمار) شرط ألا يأخذنا هذا العمل إلى مواقف أخرى. خصوصاً أننا نسمع البعض يتحدث عن التفاوض المباشر مع العدو. نحن نؤكد أن لا تفاوض مباشر مع هذا العدو الصهيوني، فمهما طلب الخارج من لبنان الرسمي ولبنان الشعبي نحن نرفض هذا الطلب رفضاً قطعياً. وهذا الضغط العدواني الإسرائيلي اليوم هدفه جر لبنان الرسمي والمقاومة إلى الجلوس على طاولة المفاوضات».
أخبار متعلقة :