جاء في “الراي الكويتية”:
لم يَعُدْ المسؤولون في بيروت يُخْفون قَلَقَهُم مما تحوكه إسرائيل للبنان الذي بات واقعياً عالِقاً بين «درّاجةِ الحرب» التي يقودها بنيامين نتنياهو، و«إذا توقّف سيَسقط»، وبين «قطار السلام» الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من غزة، ويصرّ على أن محطّتيه التاليتين ستكونان في «بلاد الأرز» و«بلاد الشام».
وفي وقت كانت واشنطن تواصل رمي ثِقْلها لوضع المرحلة الثانية من اتفاق غزة على السكة، عبر زياراتِ «تسلُّم وتسليم» بين كبار مسؤوليها، وآخِرهم وزير الخارجية ماركو روبيو الذي سيحطّ في تل أبيب بعد نائب الرئيس جاي دي فانس، ارتفع منسوب المَخاوف في بيروت من مؤشراتِ اقترابِ إسرائيل من الارتقاء في «يوميات الضربات الموْضعية» إما إلى نَمَطِ أوسع وأعتى من دون أن تنفجر مواجهة شاملة وإما إلى حربٍ جديدة تحت عنوان «إكمال المهمة» المتمثلة في اجتثاث الخطر الذي يشكله سلاح «حزب الله».
وفي حين مضى الجيش الإسرائيلي في استهداف كوادر من «حزب الله» بغاراتٍ استهدف آخرها في عين قانا (جنوب لبنان) عيسى أحمد كربلا الذي أعلنت تل أبيب أنه «قائد فصيل في قوة الرضوان التابعة للحزب»، برز ما كُشف عن أن رئيس الأركان إيال زامير تفقّد مناورة للفرقة 91 على الحدود الشمالية مع لبنان، حيث دعا إلى رفع الجاهزية القتالية في مختلف الجبهات.
وبحسب بيان الجيش، فقد أجرت الفرقة 91 هذا الأسبوع تدريباً ميدانياً ركز على الجاهزية والكفاءة العملياتية والتعامل مع سيناريوات متعددة، ويُعد هذا أول تدريب كامل على مستوى الفرقة منذ عامين من القتال المستمر.
وأفاد الجيش بأن زامير زار (الثلثاء) التدريب الذي جرى على مستوى الفرقة التابعة للقيادة الشمالية، موجّهاً تعليماته إلى القادة بضرورة العودة إلى التدريبات ورفْع مستوى الجاهزية القتالية في مختلف الجبهات، إلى جانب مواصلة النشاطات العملياتية والقضاء على التهديدات والحفاظ على أعلى درجات اليقظة.
وشدد على أهمية جاهزية القوات واستعدادها لأي طارئ، مؤكداً ضرورة تعزيز التكامل بين مختلف أفرع الجيش أثناء العمليات التدريبية.
في موازاة ما نقلتْه صحيفة «جيروزاليم بوست» عن مسؤولين استخباراتيين غربيين من أن «حزب الله» سرّع أخيراً وتيرة جهوده لإعادة بناء إمكاناته العسكرية وغالبية جهود إعادة تسليح نفسه تجري شمال نهر الليطاني وأنه«نجح في إعادة تسليح نفسه، بما في ذلك بالصواريخ»، بالإضافة إلى«تجنيد مقاتلين جدد في صفوفه، واستعادة مواقع وقواعد تابعة له»، فإنّ هذه التقارير تعمّق الخشيةَ من أنها في إطار«مراكمة إعلامية»لتبرير توسيع العمليات العسكرية في لبنان والتي يواكبها تزخيم«البناء المعلوماتي»عبر حركة المسيّرات التي تكثفت في الأيام الماضية في شكل مريب ومخيف فوق غالبية المناطق وصولاً إلى مقرات رسمية (القصر الجمهوري والسرايا الحكومية) ما استدعى تحرياتٍ لبنانية عما إذا كانت بمثابة«دق النفير»قبل الضغط على الزناد.
عدم معاكَسة مسار التفاوض
وما عزّز هذه المخاوف أن لبنان الرسمي بدا في الأيام الأخيرة وكأنه يدور في مكانه وسط ارتباكٍ ساد منذ أن دعا الرئيس جوزف عون إلى تَفاوض مع إسرائيل حول المسائل العالقة على قاعدة عدم جواز «معاكَسة مسار التفاوض وتسوية الأزمات في المنطقة»، ووقوع هذه الدعوة بين كونها «ربط سبّاق» للبلاد بما يُرسم للمنطقة فلا تكون خارج الشرق الجديد، وبين أنها في سياق احتوائي أيضاً لمناخ ضاغط على بيروت للذهاب نحو تفاوض مباشر مع إسرائيل يتجاوز الشكل الذي طبع مفاوضات الترسيم البحري التي جرب تحت علم الأمم المتحدة وبرعاية أميركية.
وقالت مصادر مطلعة لـ «الراي»، إن لبنان «عالق واقعياً في «عنق زجاجة»فهو يعرف أن لا قدرة له على تَحَمُّل صِدام داخلي في ملف سلاح حزب الله، ولا حرب جديدة تحت العنوان نفسه، وهو يدرك في ظل الضغوط المتعاظمة عليه خصوصاً بعد تسوية غزة، أن لا سبيل لتفادي تَجَرُّع أي من الكأسين، وكل منهما أمرّ من الثاني، إلا بواحد من طريقين: إما أن يسلّم الحزب سلاحه طوعاً، وإما أن ينخرط لبنان في مفاوضاتٍ تلجم تل أبيب وتضع قضية السلاح في الوعاء الأشمل لحلّ مستدام يشتمل على كل مطالب لبنان التي تتمحور حول ما لم تنفّذه إسرائيل من اتفاق وقف النار (27 تشرين الثاني)، من إنهاء الاعتداءات والانسحاب من النقاط التي مازالت تحتلها جنوباً وإعادة الأسرى، وصولاً إلى تثبيت نقاط الخلاف الحدودية وربما العودة إلى اتفاق الهدنة، بما يُنهي عملياً وظيفة السلاح».
وبحسب المصادر، فإن في هذين الخيارين ثمة نقطة ضعف رئيسية تجعل لموقف لبنان «خاصرة رخوة»، وتتمثّل في أن «الحزب يرفض مبدأ تسليم سلاحه ويربطه، من باب المناورة وبدافع الإحراج، بتنفيذ إسرائيل أولاً كل مندرجات اتفاق وقف النار وفق تفسيره له، ثم يُبحث السلاح من ضمن حوار داخلي حول استراتيجية الأمن الوطني».
وهذا الموقف، كما تقول المصادر نفسها، يجعل أي تفاوض لبناني، وبمعزل عن شكله، محكوماً بأن لبنان الرسمي يجلس على الطاولة ولا يملك مفتاح القدرة على تطبيق تعهداته أو موجبات أي حلّ يتمحور حول سحب السلاح في نهاية المطاف وعلى البارد.
حتى أن «حزب الله»، كما تؤكد المصادر، وفي سياق التمسك بتعزيز خطوط الدفاع حول سلاحه الموصول حُكماً بحسابات إيران ومقتضيات حماية نفسها و«رأسها»، ارتاب من دعوة عون إلى تفاوض مع إسرائيل على غرار مفاوضات الترسيم البحري، إدراكاً منه أن أي مسار تفاوضي سيكون محكوماً بـ «السلة الوحدة» وأن «البيضة الذهبية» فيها ما هي إلا سلاحه، وأن واشنطن ستدير هذه المفاوضات بوهج «العصا» التي رُفعت على «حماس» ونتنياهو للدفع نحو سلام غزة كمدخل لسلام أعمّ في الشرق الأوسط، وتالياً فإن ترامب و«ترسانته الدبلوماسية» سيكونان على «الخط الساخن» مع بيروت وعواصم التأثير الاقليمي والدولي لفرض «السلام ولو بالقوة» على جبهة لبنان.
وفي هذا الإطار، بدا كلام الموفد الأميركي توماس براك وتحذيره من أنه «إذا استمرّت بيروت بالتردّد في قضية السلاح فقد تتصرّف إسرائيل منفردة – وعندها ستكون العواقب وخيمة» و«إذا فشل لبنان في التحرّك الآن، فإنّ الجناح العسكري للحزب سيكون حتماً أمام مواجهةً كبرى مع إسرائيل»، وكأنه بمثابة «ضوء برتقالي» مبكر لإسرائيل التي قد تلجأ منفردة إلى تجديد الحرب أو توسيع الضربات، رقعةً ونوعاً.
في المقابل، فإن إسرائيل، ومن خلْفها واشنطن، تستخدم دينامية التسويات التي يَعتبر ترامب أنها انطلقت من غزة للدفع نحو تفاوض مباشر مع لبنان يلاقي «المسار الأمني» بين تل أبيب ودمشق وإلا «فلغة الديناميت» جاهزة، وهذا ما يفسّر تريّث لبنان في مسألةِ التفاوض التي كان رئيس البرلمان نبيه بري نعاها قبل أيام قليلة، كاشفاً أن إسرائيل رفضت مقترحاً أميركياً «يقضي بإطلاق مسار تفاوضي، يُستهلّ بوقف العمليّات الإسرائيليّة لمدّة شهرين، وينتهي بانسحاب إسرائيلي من الأراضي اللّبنانيّة المحتلّة، وإطلاق مسار لترسيم الحدود وترتيبات أمنيّة»، ومؤكداً «لم يعد هناك من مسار دبلوماسي قائم، سوى العمل ضمن الآليّة المتَبعة عبر لجنة الإشراف على تنفيذ اتفاق وقف النّار (الميكانيزم)».
وإذ تحدثت تقارير في بيروت عن استكشافٍ يحصل لإمكان «تطعيم» لجنة الميكانيزم بمدنيين لتصبح إطاراً لتفاوض غير مباشر بين لبنان وإسرائيل، فإن محطة «ام تي في» ذكرت أن الاجتماع المقبل لهذه الآلية وعلى الأرجح الأربعاء المقبل قد تشارك فيه الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس فيه، في موازاة معلومات سرت عن احتمال زيارة براك للبنان في الأيام الآتية رغم الأجواء التي كانت سادت عن أن مهمته اللبنانية انتهتْ وأنه سيسلّم «الدفة» للسفير الجديد ميشال عيسى الذي يُنتظر وصوله نهاية الشهر الجاري.
وعلى وقع الارتجاجات المستمرة لمواقفه الصادمة تجاه لبنان التي كتبها على منصةِ «أكس» (الاثنين)، عاود براك الإطلالة على الملف اللبناني وهذه المرة مستذكراً تفجير مقرّ مشاة البحرية الأميركية في 23 أكتوبر 1983، حيث علّق: «قُتل 241 من مشاة البحرية الأميركية والبحارة والجنود، و58 عسكريّاً فرنسيّاً، وستة مدنيين لبنانيين عندما دمّر انتحاري ثكنة مشاة البحرية في بيروت، في واحدة من أعنف الهجمات على الأميركيين في الخارج».
وأضاف: «نُخلّد ذكراهم بتذكر الدرس: على لبنان أن يحلّ انقساماته ويستعيد سيادته. ولا يمكن لأميركا أن تُكرّر أخطاء الماضي ويجب ألّا تكررها».
وفي موازاة ما نقلتْه «وكالة الأنباء المركزية» اللبنانية عن أوساط دبلوماسية غربية من أن «لائحة عقوبات أميركية جديدة شارفت على نهايتها ستصدر قريباً وتطال كل من قدم الدعم والمساعدة لحزب الله في الداخل والخارج»، مشيرة إلى «توقع إعلانها الأسبوع المقبل قبل وصول السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى، من أصول لبنانية ومن الحلقة الضيقة لأصدقاء ترامب»، برز موقف لرئيس الحكومة نواف سلام عبّر فيه عن قلقه من نيات إسرائيل حيال لبنان قائلاً «أعتقد أن نتنياهو يتعامل مع الحرب كما يتعامل المرء مع ركوب الدراجة، إذا توقّف، يسقط، ولهذا أنا قلق من الوضع؛ فعلى الحدود مع لبنان نواجه حرب استنزاف، ليست حرباً شاملة، لكنها حرب تُنهك الجميع».
أخبار متعلقة :