كتب أنطوان مراد في “نداء الوطن”:
قد لا يعيد التاريخ نفسه بالضرورة، لكن ثمة مشاهد متشابهة تدفع إلى توسيع دائرة الرؤية والقراءة للتطورات، على غرار مؤتمر مدريد للسلام في خريف العام 1991 في أعقاب حرب الخليج الثانية، وما تخلله من مفاوضات مباشرة، والذي توَّج في حينه مرحلة تقترب في بعض وجوهها من المرحلة الراهنة، وما يتم طرحه من خيار تفاوضي مباشر أو غير مباشر، كمسار لا بد من بلوغه عاجلًا أم آجلًا.
ففي كانون الثاني 1991 قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا وعربيًا واسعًا لإخراج القوات العراقية من الكويت على أثر عملية الغزو التي أطلقها الرئيس صدام حسين في 2 آب 1990 بناء على حسابات خاطئة ومعطيات ملغومة كانت السفيرة الأميركية إبريل غلاسبي من أبرز مصادرها. وما ساهم في القضاء بشكل حاسم على صدام ونظامه هو اندفاعه إلى قصف إسرائيل بالصواريخ الباليستية تحت شعار تحرير فلسطين.
واليوم، تشهد المنطقة حراكًا تحت عنوان السلام وصولًا إلى التطبيع بقيادة أميركية يتولاها الرئيس دونالد ترامب، انطلاقًا من نتائج حرب غزة، حيث كررت حركة “حماس” بدفع إيراني خطأ صدام، فأطلقت عملية “طوفان الأقصى” على غرار عملية اجتياح الكويت أو “أم المعارك” كما سماها الرئيس العراقي الراحل. وما زاد في الطين بلة لدى محور الممانعة هو وقوع “حزب الله” بقيادة السيد حسن نصرالله في الخطأ نفسه لا سيما لجهة سوء التقدير في ما يتعلق بموازين القوى، فأطلق في الغداة عملية إسناد غزة. وكما تم تحرير الكويت، وسقوط نظام صدام حسين، سقطت “حماس” في غزة وتم توجيه ضربات قاسية لكل من إيران و”حزب الله”، وصولًا إلى انهيار نظام بشار الأسد.
وفي ضوء المعادلة الراهنة، حيث لا يملك “حزب الله” القدرة على الرد على إسرائيل برصاصة يتيمة، مسقطًا بنفسه شعار المقاومة، ومفضلًا المراوحة في مساحة رمادية بين اللاحرب واللاسلم، فإن لا خيارات واسعة باستثناء الإصرار على تطبيق وقف النار كاملًا والتزام القرارات الدولية تأسيسًا على اتفاق الطائف، وذلك كله تبلور عمليًا في قرار مجلس الوزراء حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية على مختلف الأراضي اللبنانية.
على أن المسار المرسوم لن يتوقف عند وقف للنار وحصرية السلاح وانسحاب إسرائيل، بل يفترض حكمًا الانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها التفاوض مع إسرائيل، ليس للقفز مباشرة إلى السلام والتطبيع، بل أقله لتعويم اتفاقية الهدنة كمرحلة انتقالية، ومن ثم فتح الباب أمام ترسيم دقيق للحدود وعناوين أخرى ذات صلة.
ومن هنا كان طرح رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بأنه “لا بد من التفاوض مع إسرائيل لحل المشاكل العالقة بين الطرفين، وقد سبق للدولة اللبنانية أن تفاوضت مع إسرائيل برعاية أميركية وأممية توصلًا لترسيم الحدود البحرية، متسائلًا ما المانع من تكرار الأمر نفسه لا سيما وأن الحرب لم تؤد إلى نتيجة، علمًا أن شكل التفاوض يتم تحديده في حينه”.
وكلام الرئيس عون لم يأت من هباء، بل بناء على معطيات جدية وواقعية، لكنه يؤكد في الوقت عينه أن التفاوض هو عمليًا بين الدولة اللبنانية وإسرائيل، لأن المسألة لا تتعلق بوقف نار بين “حزب الله” وإسرائيل، وتاليًا وكما يقول مرجع سيادي، ليس من حق “حزب الله” أن يعترض لا على مبدأ التفاوض، ولا على حق الدولة اللبنانية في التفاوض حصرًا مع إسرائيل. والدور الذي لعبه الرئيس نبيه بري في مفاوضات الترسيم البحري كان استثناء، وبالتالي، وبحسب الدستور، فأي تفاوض دولي يتولاه رئيس الجمهورية وله أن يكلف من يمثله بالتنسيق مع مجلس الوزراء ورئيسه.
أما في ما خص احتمال الوصول حتى إلى مفاوضات مباشرة، فهو أمر مرهون بمسار التطورات، لكن الأكيد أن لبنان سبق وخاض مفاوضات مباشرة مع إسرائيل خلال مفاوضات مؤتمر مدريد. فحينها، لبى لبنان الدعوة إلى المؤتمر مع كل من سوريا والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ومصر برعاية أميركية روسية وحضور دول عدة أخرى ولا سيما أوروبية.
وبعد ثلاثة أيام من اللقاءات والمواقف والاتصالات، انطلقت المفاوضات الثنائية المباشرة على مسارات عدة، مفاوضات لبنانية إسرائيلية، وسورية إسرائيلية، ومفاوضات ضمت إسرائيل مع وفد فلسطيني أردني مشترك. ومع بداية المفاوضات، وفي ظل شعار تلازم المسارين اللبناني والسوري، وقد كنت شاهد عيان من ضمن الوفد الإعلامي اللبناني إلى المؤتمر، اعترضت سوريا بشدة على انطلاق المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية قبل المفاوضات السورية الإسرائيلية بنصف ساعة، وتأخرت المفاوضات حتى تم حل المسألة بانطلاق المفاوضات على المسارين في الوقت عينه. وهذه الواقعة دلت على مدى تحكم النظام السوري في حينه بالقرار اللبناني حتى في أمور شكلية. أما اليوم، فقد رحل هذا النظام، ولم يعد لـ “حزب الله” السطوة عينها على الدولة اللبنانية، وتاليًا لا شيء يمنع الحكم والحكومة من العمل وفق قناعتهما بضرورة استكمال مسار استعادة سيادة الدولة والقيام بكل ما يخدم المصلحة اللبنانية بعد انتفاء حجة السلاح لمقاومة إسرائيل، وقد بات سلاحًا حصريًا للاستقواء على الدولة وسائر اللبنانيين.
أخبار متعلقة :