كتب سامر زريق في “نداء الوطن”:
يفتح التاريخ أبوابه أمام أحمد الشرع، ويمنح ذاك الجهاديّ الذي يقتحم أهوار السياسة وأهوالها بشجاعة وواقعية مشهودتين مفتاح “الحكاية السورية”، ليكون كاتبها، وبطلها الذي يمتلك زمام اختيار موقعه وتحصينه. بعد “نيويورك”، ها هي “واشنطن” تستقبل الرئيس السوري بحفاوة عز نظيرها، فينتقل بمهارة من احتضان “الأمم” ومؤسّساتها، إلى “حميمية البنتاغون”، وصولًا إلى الجلوس في “البيت الأبيض” على مقعد يسعى إليه الكثير من أقرانه.
توازيًا، حلّ الرئيس اللبناني ضيفًا على بلغاريا، الدولة التي خرجت من ركام “السوفياتية” لتلتحق بهوامش العائلة الأوروبية. المقارنة بين المشهدين كافية لتبيان مدى حراجة موقف لبنان، وكأنه عالق في عنق الزجاجة، وفاقد القدرة على المبادرة والإقناع، مع أن التاريخ منحه الفرصة نفسها لصياغة حكايته الخاصة.
في “قمة الابتكار”، سألت ريما مكتبي رئيس الحكومة نواف سلام إن كانت سوريا الجديدة سبقتنا إلى الساحة الدولية، ومتى يراه اللبنانيون ورئيس الجمهورية في عواصم القرار، فأجاب نصف جواب “نحن لا نتنافس مع سوريا، وسعداء من أجلها”، عاد وأتمّ جوابه بشكل غير مباشر في الحوار مع ريكاردو كرم بمصطلح مفتاحي حول “ثقل العادات المكتسبة” وتصعيبها عملية إحداث تغيير جدّي يعدّ شرطًا شارطًا لنهوض البلدان.
هذا الإرث من العادات تجذر في بنية السياسة اللبنانية ليرخي بثقله على صناعتها وممارستها. الكلّ في لبنان يستثمر في المظلومية، لأنها ناخب مؤثر، ومزاج ضاغط، فتتصارع الحكايات الفرعية على خشبة مسرح الوطن، وتُعْمِلُ خصوصيّتها في حكايته. لم يختر نواف سلام عرض مأساة هاملت “الأمير المجنون” في السراي الحكومي عبثًا. غير أن ثقل العادات المكتسبة يجعل لبنان يختار التطهّر من ماضيه من خلال عبور طريق “دانتي” في “الكوميديا الإلهية”، بحيث تغدو استعادة الدولة قرارها الاستراتيجي وحصرية السلاح تراجيديا لبنانية محكومة بعبور طبقات من الجحيم.
ثمّة بعض الانتقادات تعالت مؤخرًا إزاء ما عُدّ تراجع رئيس الحكومة، ولا سيّما بعد كتاب “حزب اللّه” الذي أطلقه كـ “رصاصة متفجرة” على صدر مقاماته ومؤسّساته الدستورية، وفي طليعتها “مجلس الوزراء” مركز صناعة القرار كما يقول الدستور، وكما يسعى سلام. لكن ذلك الجزء المستور من الحكاية.
كانت “قضية الروشة” نقطة تحوّل في هذه التراجيديا المستمرّة، ليس فقط بكسر قرار الدولة، بل أكثر منها بما تلاها. عمل “حزب اللّه” على تحميل الرئيس سلام أزمته وانكساراته، فصوّره بأنه “خصم البيئة” و “مانع الإعمار” وغيرها من الحمولات الثقيلة. ودخلت على الخط مؤسّسات الدولة “المتعوّدة” على قديم ترتاح له، و “عين التينة” لتجديد سطوتها كـ “عرّاب” للجمهورية التائهة، و “بعبدا” لترطيب العلاقة الجافة مع حاضنة “الثنائي”. وابتعد أهل الدولة والمؤسّسة الدينية “مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء”.
هنا بالضبط برز ثقل العادات المكتسبة، لكن الرئيس سلام عرف كيف يتموضع لاحتواء تلك العاصفة الدرامية التي جعلته في المهداف، من خلال التسكين المتدرّج، دون تبديل أو تراجع، ودون الخوض في صراع بلا ضوابط، رغم مكاسبه الفردية الهائلة. حينما أطلق الرئيس جوزاف عون مبادرة التفاوض، وراح الرئيس بري يزاحمه بمسارات موازية، عاجلهما “حزب اللّه” بطلقة غادرة مزدوجة لم تصب سلام بفضل تموضعه الحذر. غير أنه تدخل بعقلية رجل الدولة بمواقف تدعم نهج رئيس الجمهورية، وترسل تمريرات إلى رئيس البرلمان، وكلاهما أظهرا امتعاضًا من مفاعيل الرصاصة عبر تسريبات صحافية.
في إطلالتيه الإعلاميّتين، وضع رئيس الحكومة الإصبع على الجرح، من خلال إعادة تعريف الإشكالية الأساسية في لبنان بأنها “فقدان الثقة”، والذي كان الهدف المقصود من “مسألة الروشة” برمّتها لإشعار المواطنين بجدية الدولة في استعادة المبادرة والقرار، بما يسهم في تجسير جزء من الفجوة العتيقة بينهما.
يدرك الرئيس سلام أن الفارق بين “التراجيديا اللبنانية” و “الحكاية السورية” نقطة نظام من الأعراف تجذرت فيه ذهنية المساومات والتسويات، ولذلك يصرّ على إشهار موقفه الرافض لها. في لبنان، ليست المشكلة في كثرة اللاعبين، بل بالتنافس على مقعد البطولة الفردية في حكاية جاهزة لا نريد شركاء في كتابتها. إذ ذاك يفرض علينا السيناريو وفي طرفه “المطهر” الرهيب لدانتي.
أخبار متعلقة :