في خضمّ التقلبات الجيوسياسية التي تضرب الشرق الأوسط، ترسم هيئة الاستثمار القطرية (QIA)، بصندوقها السيادي الذي تبلغ قيمته 524 مليار دولار، مسارًا اقتصاديًا إستراتيجيًا يتجاوز حدود التوترات الإقليمية.
فبدلًا من تبني سياسة الانكفاء أو الحذر المفرط الذي قد تمليه الظروف الإقليمية المضطربة، تُصعّد قطر بقوة حضورها وتعزز استثماراتها في الولايات المتحدة، مع تركيز حاد وغير مسبوق على القطاعات المستقبلية التي تقود عجلة الابتكار العالمي، ويأتي في مقدمة هذه القطاعات كل من الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية المتطورة.
وهذه الخطوات التي تتخذها الدوحة ليست مجرد سلسلة من الصفقات المالية العابرة، بل هي إشارة إستراتيجية واضحة للعالم أجمع مفادها أن قطر تفصل مصالحها الاقتصادية الطويلة الأجل عن ضغوط اللحظة السياسية القصيرة، مُرسِّخةً مكانتها كلاعب محوري في مستقبل التكنولوجيا العالمية.
صفقات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية:
تُظهر التحركات الأخيرة لهيئة الاستثمار القطرية التزامًا عمليًا بتنفيذ تعهدها السابق بضخ 500 مليار دولار إضافية في الاقتصاد الأمريكي على مدى العقد المقبل. ويُشكّل قطاع التكنولوجيا مركز الثقل لهذه الإستراتيجية، إذ ضخّت الهيئة استثمارات ضخمة خلال شهر سبتمبر الماضي لتعزيز موطئ قدمها، وتشمل:
1- الذكاء الاصطناعي:
شاركت الهيئة في جولات تمويل عملاقة لشركات رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما يشمل: الانضمام إلى جولة تمويل شركة أنثروبيك (Anthropic) البالغة 13 مليار دولار، والمشاركة في رفع تمويل شركة (xAI) التابعة لإيلون ماسك، التي قُدّرت قيمتها بمبلغ 200 مليار دولار.
2- البنية التحتية الرقمية:
كشفت الهيئة أيضًا خلال شهر سبتمبر الماضي عن مشروع مشترك لمراكز البيانات مع شركة (Blue Owl Capital) باستثمار يقارب مليار دولار في أسهم جديدة. وتُعدّ هذه الاستثمارات في مراكز البيانات ضرورية لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتنامية على مستوى العالم.
وقال محمد السويدي، الرئيس التنفيذي لهيئة الاستثمار القطرية، في تصريحات لوكالة بلومبرغ: “تتربع الولايات المتحدة على رأس قائمة الأسواق ذات الأولوية لهيئة الاستثمار القطرية، وقد التزمنا هذا العام بتوسيع استثماراتنا بنحو كبير هناك في قطاعات إستراتيجية”.
وأكد السويدي أن استثمارات الهيئة تدعم بالفعل نحو 300 ألف وظيفة في الولايات المتحدة، متوقعًا أن يتضاعف هذا الرقم بنحو كبير مع نمو المحفظة الاستثمارية.
التكنولوجيا في صدارة الأولويات:
يؤكد مصدر مطلع على توجهات الصندوق، وقد طلب عدم الكشف عن هويته لوكالة بلومبرغ، أن التكنولوجيا ستكون الركيزة الأساسية للنفقات الجديدة، مُشيرًا إلى أن الولايات المتحدة تُعدّ وجهة جذابة للاستثمار في مجالات حيوية مثل: الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الرقاقات الإلكترونية، والتصنيع المتقدم.
ولم يقتصر استثمار الهيئة على الأسماء الكبيرة الناشئة، بل يشمل محفظة قوية من الشركات التقنية القائمة، منها:
- شركة (Databricks): التي قُدّرت قيمتها آخرًا بأكثر من 100 مليار دولار.
- شركة (Applied Intuition): وهي شركة متخصصة في خدمات المركبات الذاتية القيادة والطائرات المسيّرة ومقرها كاليفورنيا.
- مشاريع إيلون ماسك الأخرى مثل: (SpaceX)، و(Neuralink).
وتُشير التوقعات إلى أن هيئة الاستثمار القطرية تعتزم إكمال ما يصل إلى 25 صفقة تقنية بين هذا العام والعام المقبل، مما يُبرز تسارع وتيرة التركيز في هذا القطاع.
فصل الاستثمار عن الجغرافيا السياسية:
تُرسّخ هذه الصفقات التزام قطر تجاه الولايات المتحدة، حتى في ظل التوترات الإقليمية الأخيرة، ويُعدّ تعليق الرئيس التنفيذي للهيئة، محمد السويدي، بعد الهجمات الإسرائيلية على الدوحة، مؤشرًا على إستراتيجية الدوحة الواضحة وهي فصل القرار الاستثماري عن التقلبات الجيوسياسية.
وتعليقًا على هذا النهج، قالت كارين يونج، الباحثة الأولى في جامعة كولومبيا: “إن قرار تخصيص الاستثمار في الذكاء الاصطناعي مع شركاء في الولايات المتحدة وبناء مراكز بيانات عالميًا هو قرار منطقي وله جدوى تجارية لهيئة الاستثمار القطرية، بغض النظر عن أي توترات في العلاقة الثنائية”.
ويُفسر الخبراء هذا التوجه على أنه براغماتية قطرية تهدف إلى عزل الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا الأمريكي عن الديناميكيات الأمنية المتقلبة في المنطقة.
توسع عالمي موازٍ:
تُعزّز عوامل داخلية وخارجية من قدرة هيئة الاستثمار القطرية على دفع هذا التوسع التكنولوجي، فمن المتوقع أن تُضيف خطط قطر لتوسيع إنتاج الغاز الطبيعي المسال أكثر من 30 مليار دولار سنويًا إلى إيرادات الدولة، وسيتحول جزء منها إلى الصندوق السيادي، مما يمنحه ثقلًا أكبر لتمويل الصفقات العملاقة.
كما يُعدّ الرئيس التنفيذي، محمد السويدي، شخصية محورية في هذا التوسع، إذ أمضى معظم سنواته الأولى في الهيئة في الأمريكيتين، وأسس مكتب الولايات المتحدة، وتدرج ليصبح كبير مسؤولي الاستثمار للمنطقة، مما يوفر للهيئة شبكة علاقات وخبرة عميقة في السوق الأمريكية.
ولا يقتصر طموح هيئة الاستثمار القطرية على التكنولوجيا ومراكز البيانات؛ بل يمتد ليشمل قطاعات حيوية أخرى، وتُعدّ الرعاية الصحية هدفًا رئيسيًا، إذ تتركز أغلب استثماراتها العالمية في هذا المجال ضمن السوق الأمريكية. كما تُدرج الهيئة على قائمة أولوياتها كلًا من القطاعات الصناعية، وسلاسل الإمداد، والبنية التحتية، والعقارات.
ومع ذلك لم يُبطئ التركيز المكثف للصندوق على الولايات المتحدة من وتيرة صفقاته حول العالم، فقد اشترى الصندوق آخرًا حصة بقيمة تبلغ 500 مليون دولار في شركة (Ivanhoe Mines)، الكندية لتعدين النحاس.
كما شارك في قيادة ائتلاف يسعى لخصخصة شركة صينية لتصنيع الأجهزة الطبية مُدرجة في هونج كون بصفقة ضخمة تبلغ 1.4 مليار دولار وفي دليل على مرونتها الجغرافية، أكد مسؤول تنفيذي رفيع في مايو أن الهيئة ستحافظ على نشاطها في الصين، متحدية بذلك حالة الحذر التي تسود المستثمرين بسبب التوترات الجيوسياسية.
وختامًا، لا تقتصر إستراتيجية هيئة الاستثمار القطرية على تحقيق عوائد مالية مجزية؛ بل هي خطة محكمة تهدف إلى وضع الدوحة في صميم مستقبل التكنولوجيا العالمية. إنها رسالة قاطعة مفادها أن الاستحواذ على تكنولوجيا الغد يمثل الأولوية الإستراتيجية القصوى، وهي أولويّة لا يمكن أن تُسمح بالخلط بينها وبين أي تعقيدات أو تقلبات جيوسياسية راهنة.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
المصدر: البوابة العربية للأخبار التقنية