وسط موجة من الوعود الطموحة التي تتحدث عن ذكاء يفوق قدرات البشر ويعيد رسم ملامح الحضارة، تتجه شركات التقنية العملاقة إلى ضخ مليارات الدولارات في مراكز بيانات عملاقة.
ومع تنامي سباق الاستثمار على نحو غير مسبوق، تتجدد المخاوف من تكرار أزمة الشركات التقنية مطلع الألفية، حين انهارت أحلام الطامحين، وقلَب الواقع كل التوقعات. اليوم، يبدو السؤال أكثر إلحاحًا: هل نحن أمام بداية عصرٍ جديد، أم أمام فقاعة تقترب لحظة انفجارها؟
هل يعيد التاريخ نفسه؟
في مطلع الألفية، كان المفكر والكاتب التقني جورج غيلدر يتحدث بحماس عن ثورة جديدة ستغيّر شكل العالم، مؤكدًا أنها ستكون أعمق تأثيرًا من ثورة الحواسيب نفسها. كان يقصد الألياف الضوئية التي وصفها بأنها “ضوء بروميثيوسي” يفتح الباب أمام عصر اتصالات بلا حدود. واستخدم غيلدر هذا التعبير مجازًا من الأسطورة الإغريقية عن بروميثيوس الذي منح البشر النار كرمزٍ للمعرفة والتقدّم.
في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تشهد توسعًا كبيرًا في شبكات الاتصالات. وظهرت مئات الشركات الناشئة مدفوعة بتفاؤل المستثمرين وبتوصيات شخصيات نافذة ومؤثرة مثل غيلدر.
لكن بعد أشهر قليلة تعرضت السوق لانهيار كبير، وخسرت الشركات نحو 500 مليار دولار، وأعلنت أكثر من 200 شركة إفلاسها، وتورط قادة إداريون في قضايا أودت بهم إلى السجن.
إنفاق ضخم يفوق العائدات
اليوم، يرى محللون تشابهًا واضحًا بين ما حدث في تلك الحقبة وما يجري الآن مع الذكاء الاصطناعي. ففي الأشهر الماضية، صدرت تصريحات طموحة جدًا من كبار رؤساء شركات التقنية، فتوقع إيلون ماسك أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي مستوى العقل البشري بنهاية عام 2026.
وأما سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ OpenAI، فقال في يوليو إن ChatGPT “سوف يعيد تشكيل مسار التاريخ البشري”، في حين اشار وزوكربيرج إلى تطوير “ذكاء فائق” يساعد الأفراد في تحقيق طموحاتهم، ويجعلهم أكثر قدرة في حياتهم اليومية.
ولا تأتي هذه التوقعات دون أساس مالي، إذ تخطط الشركات التقنية الخمسة الكُبرى عالميًا لإنفاق نحو 371 مليار دولار خلال عام 2025 لتشييد مراكز بيانات ضخمة مخصّصة للذكاء الاصطناعي. كما تشير التوقعات إلى أن الإنفاق الإجمالي قد يصل إلى 5.2 تريليونات دولار بحلول عام 2030، وفقًا لما ذكرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
وللمقارنة، فإن هذا الرقم يتجاوز سبعة أضعاف تكلفة بناء شبكة الطرق السريعة الأمريكية. وإذا احتسبنا التضخم، فسنجد أنه يتجاوز نحو 15 ضعف كلفة برنامج أبولو الذي أوصل الإنسان إلى القمر، ويعادل تقريبًا 150 ضعف كلفة مشروع مانهاتن الذي أنتج السلاح النووي.
ومع كل هذا الإنفاق الضخم، فإن العوائد ما زالت محدودة. إذ تُظهر تقديرات أن إيرادات سوق الذكاء الاصطناعي في عام 2025 لن تتجاوز 60 مليار دولار.
بنية تحتية تتآكل سريعًا.. وأزمة طاقة متوقعة
تواجه صناعة تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي وتشغيلها حاليًا تحديات صعبة، من أبرزها الانخفاض السريع في قيمة وحدات معالجة الرسومات GPUs التي تعتمد عليها مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي؛ لأن هذه الشرائح لا تعمّر طويلًا، ولا تُعد بنية تحتية قابلة للاستخدام لسنوات طويلة مثل شبكات السكك الحديدية أو الألياف الضوئية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك صعوبات كبيرة في توفير الطاقة؛ فوفقًا لمجموعة Boston Consulting، فإن ربط مراكز البيانات بمصادر الكهرباء قد يستغرق ما بين 6 و 8 سنوات. وحتى عند الربط، قد لا تكون الطاقة متاحة كما بيّن تقرير صادر عن ولاية فيرجينيا، التي تعد العاصمة العالمية لمراكز البيانات.
أرباح لا تواكب الطموحات
وجدت دراسة لمعهد MIT Media Lab أن 95% من مشروعات الذكاء الاصطناعي في الشركات لم تحقق عائدًا واضحًا. وأفادت تقارير من مؤسسة “McKinsey” بأن معظم الشركات التي تبنّت الذكاء الاصطناعي التوليدي لم تلاحظ تأثيرًا ماليًا ملموسًا في أرباحها. وحتى إصدار GPT-5 في أغسطس الماضي لم يُحدث ضجة كبيرة، مما أثار تساؤلات حول جدوى توسيع مراكز البيانات دون توقف.
تمويل معقّد ومخاطر خفيّة
تثير أساليب التمويل أسئلة أخرى؛ فشركة إنفيديا تبيع رقاقاتها لـ OpenAI وتستثمر فيها في الوقت نفسه، وهو وضع يُشبه ما حدث قبل انفجار فقاعة الاتصالات. وفي أغسطس جمعت ميتا مبلغ 29 مليار دولار لتمويل مراكز البيانات عبر قروض خارج ميزانيتها.
وتلجأ شركات مثل OpenAI و CoreWeave إلى أدوات تمويل معقدة عبر شركات وسيطة مما يجعل المخاطر المالية أقل وضوحًا.
تفاؤل لا ينتهي
من جهة أخرى، يقول المتفائلون إن الإيرادات في نمو، وإن حجم الاستثمار الحالي مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي ما زال أقل مما كان عليه خلال فقاعة السكك الحديدية في القرن التاسع عشر على سبيل المثال، كما تملك الشركات الكبرى احتياطات مالية ضخمة تسمح لها بتحمّل خسائر كبيرة على المدى القصير.
احتمال الانفجار قائم
يرى البروفيسور إريك جوردون من جامعة ميشيغان أن مؤشرات التراجع قد تبدأ بالظهور أولًا في تمويل الشركات الناشئة، مع توقع تقلص جولات الاستثمار التي تجريها، ثم ينعكس التراجع على أسعار الأسهم في البورصات.
وأما غيلدر، الذي عاش خيبة فقاعة الاتصالات، فيصف سباق بناء مراكز البيانات اليوم بأنه “إفراط ضخم في التشييد”. ويؤكد أنه مؤمن بمستقبل الذكاء الاصطناعي، لكنه يرى أن الجيل المقبل من التقنية سيعتمد على معالجات “wafer-scale”، التي تُعد جيلًا جديدًا من المعالجات تُستخدم فيه رقاقة كاملة كمعالج واحد ضخم بدلًا من تقسيمها إلى رقاقات صغيرة. وهي توفر قدرةً ضخمة على تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي بفضل آلاف النوى المترابطة بسرعاتٍ أعلى وطاقةٍ أقل.
وتوقع غيلدر أن أمام الشركات “أربع أو خمس سنوات فقط” قبل أن يتغير المشهد التقني تمامًا.
وبين ذكريات انهيار فقاعة الاتصالات قبل ربع قرن، وتوقعات قدوم ثورة ذكاء جديدة قد تغيّر شكل العالم، يبقى المستقبل مفتوحًا أمام كافة الاحتمالات. فالاستثمار الضخم قد يُترجم إلى قفزة حضارية، أو يتحول إلى درس اقتصادي آخر تُخلّده الأسواق. وحتى تتضح الصورة، سيظل الذكاء الاصطناعي يمشي فوق خيط دقيق يجمع بين الحلم والمخاطرة.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
المصدر: البوابة العربية للأخبار التقنية




