لم تَعد المنافسة العالمية في الذكاء الاصطناعي التوليدي، تدور حول من يمتلك أكبر تمويل، بل حول من يستطيع هندسة أكثر النماذج فرادةً واتزانًا، وقد ساد هذا الإجماع اليوم، أروقة مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار (FII9)، إذ تحولت الرياض من مجرد مركز مالي ضخم إلى ساحة اختبار إستراتيجية لتصميم الجيل التالي من أنظمة الذكاء الاصطناعي.
لقد كانت اليوم حاسمة، مؤكدة أن المستقبل يتطلب نماذج بعيدة تمامًا عن الرتابة والتكرار، ويضع هذا الطموح المملكة العربية السعودية كقائد ليس في تطبيق التقنية، بل في صناعة المعرفة الجوهرية التي تقوم عليها.
ولم يأتِ هذا التقييم، الصادر عن قادة التقنية والاستثمار العالميين، من فراغ؛ بل هو نتاج تضافر ثلاثة عوامل إستراتيجية، تشمل: التمويل الضخم المدعوم من صندوق الاستثمارات العامة، والرهان على الطاقة النظيفة كعنصر حاسم للحوسبة الفائقة، والسعي إلى إرساء السيادة التقنية.
ولكن كيف تستخدم السعودية هذه الأوراق لتشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
البنية التحتية.. الطاقة النظيفة ومستقبل الحوسبة كمورد عالمي:
واصلت النسخة التاسعة من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، اليوم أعمالها في الرياض، لتؤكد مجددًا موقع السعودية كمحور عالمي في صياغة ملامح الاقتصاد الرقمي، وقيادة مسيرة الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يعيد تشكيل الصناعات ويؤسس لحقبة جديدة من الابتكار والإنتاجية.
وقد شهد مركز الملك عبدالعزيز الدولي للمؤتمرات سلسلة جلسات حوارية تناولت الذكاء الاصطناعي كمجال إستراتيجي، إلى جانب موضوعات الطاقة النظيفة والمعادن الحيوية والتجارة الرقمية، التي تمثل مجتمعة البنية التحتية للثورة التقنية المقبلة.
وشدد المتحدثون في جلسة حوارية بعنوان: (عاصمة الذكاء الاصطناعي.. هل ستصبح الحوسبة موردًا عالميًا؟)، على أن بناء نماذج الذكاء الاصطناعي يتطلب مناهج تصميم جديدة وأكثر اتزانًا للوصول إلى أنظمة فريدة وقادرة على الابتكار الذاتي بعيدًا عن التكرار والرتابة.
وأشار المشاركون إلى أن توّفرالطاقة النظيفة سيمثل المحرك الرئيسي لقطاع الذكاء الاصطناعي عالميًا، مما يفتح المجال أمام المملكة لتأكيد ريادتها في الدمج بين التحول الطاقي والرقمي، مستفيدة من قدراتها المتنامية في الطاقة المتجددة ومراكز البيانات الفائقة الكفاءة.
كما تناولت النقاشات أهمية تصميم حلول حوسبة مبتكرة تسهم في رفع كفاءة الأداء وتلبية احتياجات المستهلكين بدقة، مؤكدين أن المستخدم النهائي يظل المرجع الأهم في تقييم كفاءة أنظمة الذكاء الاصطناعي وتوجيه مسار تطويرها.
وقد أكدت نتائج الجلسة أن الحوسبة لم تَعد أداة مساعدة، بل موردًا إستراتيجيًا يعادل الطاقة في قيمته وتأثيره، فالنماذج التوليدية الكبرى – مثل GPT، و Claude، و Gemini – تستهلك موارد حوسبية ضخمة تتطلب بنى تحتية مصممة خصوصًا للذكاء الاصطناعي التوليدي.
وفي هذا السياق، أشار المتحدثون إلى أن السعودية تبني أحد أكثر الأنظمة شمولًا في العالم لاحتضان الذكاء الاصطناعي، من مراكز البيانات الفائقة الأداء (HPC)، إلى شبكات الطاقة النظيفة التي تضمن استدامة العمليات الحسابية كثيفة الاستهلاك.
وتجعل هذه الرؤية المملكة أول دولة في المنطقة تتعامل مع الحوسبة كمورد وطني سيادي، مثلما تتعامل الدول الأخرى مع النفط أو المياه.
النماذج التوليدية.. من المحاكاة إلى الابتكار:
على الصعيد التقني، سلط المشاركون الضوء على أن الجيل الجديد من النماذج التوليدية لا يقتصر على توليد النصوص أو الصور، بل يتجه نحو نماذج التفكير المتعددة الوسائط، التي تهدف إلى محاكاة الطريقة التي يفكر بها البشر لاتخاذ القرارات.
وتسعى السعودية عبر شركة (هيوماين) Humain، إحدى شركات صندوق الاستثمارات العامة، إلى تطوير أحد أقوى النماذج اللغوية العربية المتعددة الوسائط في العالم، والذي يمتاز بتصميمه لفهم السياق الثقافي واللغوي المحلي، وتحسين دقة الفهم والإنتاج باللغة العربية والعامية الخليجية، في خطوة غير مسبوقة في المنطقة. ويعكس هذا التوجه إدراكًا عميقًا بأن الذكاء الاصطناعي الفائق، لا يُبنى فقط بالحواسيب، بل بالبيانات واللغة والهوية.
التمويل والبحث والتطوير.. الرهان على صناديق السيادة:
تساءل المتحدثون: “هل يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يسهم في تشكيل المحافظ الاستثمارية المستقبلية؟”، وهو سؤال يعكس التحول في النظرة إلى هذه التقنية، من كونها أداة مساعدة إلى كونها شريكًا إستراتيجيًا في اتخاذ القرار.
وأوضح الخبراء أن هذا التوجه يتطلب استثمارات متزايدة في البحث والتطوير، مؤكدين أن المملكة، عبر صندوق الاستثمارات العامة، تقود هذا المسار عالميًا بإطلاق مبادرات نوعية، أبرزها: شركة (هيوماين)، التي تمثل منصة وطنية لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة والبنية التحتية السحابية الفائقة الأداء.
وأكد المتحدثون أن الاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي بات التوجه الاقتصادي المستقبلي، نظرًا إلى تسارع التطورات التقنية وزيادة طلب الحلول التوليدية في قطاعات الطاقة، والتمويل، والتصنيع، والتعليم.
السيادة التقنية وضوابط التجارة الرقمية:
لقد ناقشت جلسات أخرى عُقدت اليوم في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، دور الذكاء الاصطناعي والتقدم التقني في سياق السيادة الوطنية، ودور التجارة الرقمية.
فقد أجمع المتحدثون في جلسة بعنوان: “الذكاء الاصطناعي والسيادة والتقدم التقني والاستثمار في رأس المال البشري”، على أن تمكين الباحثين والمطورين عبر تمويل مستدام يمثل الأساس المتين لبناء منظومة ذكاء اصطناعي وطنية.
وأكدوا أن الشراكات بين قادة الشركات العالمية والتوأمة بين القطاعين العام والخاص، تمثل السبيل الأمثل لوضع سياسات واضحة تسهم في بناء الذكاء الاصطناعي على أسس دقيقة ومتماسكة، بعيدًا عن التشعبات التقنية غير المدروسة.
كما تطرقت الجلسات إلى دور التجارة الرقمية كركيزة متنامية للاقتصاد العالمي، مشددين على أهمية الاتفاقات المتعددة الأطراف في مجالات حماية الملكية الفكرية، والرقاقات الإلكترونية، والأمن السيبراني، ووضع ضوابط للتصدير في قطاع الذكاء الاصطناعي.
الرياض.. عاصمة المستقبل التكنولوجي:
لقد تجاوزت مخرجات مبادرة مستقبل الاستثمار لهذا العام مرحلة التطلعات، لتؤكد أن الرياض تمضي بخطى ثابتة لتصبح عاصمة الذكاء الاصطناعي التوليدي في العالم، مستندة إلى رؤية وطنية طموحة، واستثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية، وكوادر بشرية مؤهلة لتقود التحول نحو اقتصاد معرفي مستدام.
وبهذا الزخم الاستثماري والابتكاري غير المسبوق، ترسم المملكة العربية السعودية مسارًا جديدًا للذكاء الاصطناعي على الخريطة العالمية، ولا تتوقف الجهود عند حدود الاستفادة من التقنية، بل تمتد لقيادتها وإعادة تعريف مستقبلها. فمن بناء مراكز الحوسبة الفائقة الأداء، إلى تطوير النماذج اللغوية الكبيرة الرائدة، ومن ضخ التمويل في البحث والتطوير، إلى صقل المواهب الوطنية وتمكينها، تمضي المملكة بخطى واضحة نحو هدف واضح: أن تكون الوجهة العالمية، التي تطور ذكاء اصطناعيٍ يولِّد حلولًا، لا مجرد إجابات.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
المصدر: البوابة العربية للأخبار التقنية




