نظّمت اللجنة الأسقفية المنبثقة من مجلس الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وبتوجيه منه، في بكركي، ذكرى ستين سنة على إصدار وثيقة “في عصرنا “NOSTRA AETATE الصادرة عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني سنة 1965، التي وقّعها 2226 أسقفاً من أصل 2500 شاركوا في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وهي تضم المطارنة: غي بولس نجيم، بولس مطر، يوسف سويف وحنا رحمه، في حضور البطريرك الراعي، بطريرك السريان الكاثوليك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، السفير البابوي المونسينيور باولو بورجيا وشيخ العقل لطائفة الموحدين الدورز الشيخ سامي أبي المنى، وبمشاركة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان ممثلاً بمفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب ممثلاً بمفتي صور وجبل عامل الشيخ حسن عبدالله، رئيس المجلس العلوي في لبنان الشيخ علي قدور ممثلاً بالشيخ أحمد عاصي، كما شارك رئيس دائرة الحوار بين الأديان في الكرسي الرسولي الكاردينال جورج كوفاكاد، برسالةٍ مصوّرة، الى حشد من رجال الدين والعلمانيين من مختلف الطوائف.
وكانت للراعي كلمةً أكّد فيها أن تأييد هذه الوثيقة يعكس وعي الكنيسة المتقدّم لرسالتها القائمة على تعزيز الوحدة والمحبة بين الناس لا بل بين الأمم، وعلى توسيع المشترك فيما بينهم، تحقيقاً لعيشهم معاً بروح العدالة والمساواة، مشيرة إلى أن هذه الوثيقة أشبه بدعوة الى المؤمنين جميعاً لكي ” يتعرّفوا ويعزّزوا الخيور الروحية والأدبية، والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، التي يولدها الحوار واللقاء بين مختلف الديانات”. وتفصّل الوثيقة أن الكنيسة تنظر ” باحترام وتقدير” إلى الديانة الإسلامية، والى ما فيها من مشتركات عديدة مع المسيحية، أهمها عبادة الله الواحد وإجلال المسيح وأمه مريم، والى ما تحمله من خيرات روحية. هذه كلّها تفوق السلبيات التي عرفها تاريخ العلاقات بين الديانتين. ان المفاهيم المتجددة، التي حملتها الوثيقة، شجّعت المسيحيين والمسلمين ودفعتهم الى تجاوز جراح الماضي، والى بناء جسور الحوار واللقاء والتفاهم من أجل عالم أكثر عدالة، وأكثر سلاماً، وأكثر التزاماً بثوابت الأخلاق والسلام والحرية”.
وتابع: “لقد أطلقت الوثيقة مساراً جديداً في الكنيسة انطلق بداية من تعميق الوعي النظري واللاهوتي والفقهي على مضامين الوثيقة، وتطور لاحقاً الى ترجمة ذلك الوعي بمبادرات عملية مشتركة في خدمة الانسان. وشكّل لبنان، ولا يزال، الأرض الخصبة لنمو بذور الوثيقة المذكورة. فتجدّدت مواثيق وعهود العلاقات الإسلامية المسيحية، وانتظمت أكثر فأكثر في أطر دستورية تطويراً للميثاق الوطني، وتحصيناً للعيش المشترك بين المكوّنات اللبنانية من أتباع الديانتين. هذا مع الإشارة الى أن لبنان كان سبّاقاً تاريخياً في عيش مضامين الوثيقة، منذ أن قامت علاقات تعارف فمودّة فأخوّة بين المتصوفين المسلمين وحبساء ونسّاك جبل لبنان المسيحيين (رحلة ابن جبير الأندلسي، الإصدار الأوّل والثاني 1852- و1907). وبالرغم من التطور الذي أحدثته الوثيقة في نفوس المؤمنين، وبالرغم مما حققه لبنان من مبادرات أبرزت وحدة أبنائه المسيحيين والمسلمين، ونهائية ولائهم للبنان، فان المسيرة لا تزال تحتاج الى الكثير من تعميم الوعي وتعميق الالتزام وتعزيز المبادرات العلمية. لقد كان غياب مبادرة تنقية ذاكرة اللبنانيين بعد الحروب التي عرفوها أبرز نقاط الضعف الذي أعاق، ولا يزال، قيام دولة المواطنة حيث ينصهر المواطنون انصهاراً متفاعلاً متكاملاً لما فيه خيرهم المشترك ومستقبلهم الموحد الجامع”.
وقال: “لقد سعت كنيستنا الى توسيع آفاق وثيقة NOSTRA AETATE النظرية، والى ترجمتها ترجمة عملية، فنشأت في كنفها مبادرات وحوارات هادفة الى تحصين الصيغة اللبنانية، وتعميق خيارات الوحدة والتضامن بين مكوّنات العائلة اللبنانية. إن المسؤولية الوطنية تقتضي منا جميعاً تطوير هذه المبادرات المشرقة الكفيلة بطيّ الصفحات السوداء الماضية. ولقاء اليوم هو إحدى هذه المبادرات المندرجة في سياق دور الكنيسة التاريخي، وأمانتها للبنان الوطن – الرسالة، كما هو شهادةٌ للشراكة الإنسانية المسيحية الإسلامية، بأبعادها الحضارية، وللمعيّة، أي العيش والسير معاً لبناء العدالة والسلام. ويأتي اللقاء بمثابة تمهيد لزيارة قداسة البابا لاون الرابع عشر الى لبنان، الذي أدرج زيارته تحت عنوان الرجاء والسلام للبنان. إننا فيما نشكر اللجنة الأسقفية على تنظيمها هذا اللقاء، ونشكر المهتمين والخبراء، أفراداً وهيئات، الذين تعاونوا معها، ونرحب بجميع الحاضرين يتقدمهم ممثلو رؤساء طوائفنا اللبنانية الكريمة، نأمل متابعة منتظمة ومتواصلة لهذه المبادرة، سائلين الله التوفيق لجميع الملتزمين بها، إشاعةً للرجاء المنشود دوماً، وحفاظاً على وطنناً لبنان، الوطن – الرسالة”.
كما كان لكلّ من الشيخ قدّور ممثلاً بالشيخ عاصي، الشيخ الخطيب ممثلاً بالمفتي عبدالله، والمفتي دريان ممثلاً بالمفتي امام، كلمات ركّزت على أهمية تعميم مضامين الوثيقة المتعلّقة بالحوار بين الأديان، وعلى كيفيّة توظيفها لتعزيز العلاقات الإسلامية المسيحية وخبرات العيش المشترك في لبنان .
ثم كانت كلمة البطريرك يونان تناول فيها مضامين الوثيقة، والالتزام بها من قبل المسيحيين والمسلمين وتوسيع المشترك بينهم،فيطلقون مبادرات عملية مبادرات مشتركة، مشدّداً على ضرورة وعي خطورة فراغ لبنان والشرق الاوسط من المسيحيين.وعرض وقائع ممّا يجري في سوريا والعراق من مؤشرات هذا الفراغ المتزايد الخطير.
ثم تلا رئيس اللجنة الأسقفية للحوار الإسلامي المسيحي المطران شارل مراد، رسالة الكردينال كوفاكاد، وجاء فيها: “قبل ستين عاماً، قدّم المجمع الفاتيكاني الثاني للعالم عطية نبوية تمثلت بإعلان هذه الوثيقة، التي تتناول علاقة الكنيسة بالأديان الأخرى. ودعا الإعلان المذكور الكنيسة إلى الاعتراف بحضور الله في تنوّع الإيمان البشري. وتابع: في الذكرى الستين، أخصّ بالتحية العلماء المسلمين والمسيحيين المجتمعين في هذه المناسبة. لتكن هذه الذكرى تجديدًا لا تكرارًا. لقد تغيّر العالم، ويجب أن تتجدّد أيضًا رؤيتنا للأديان الأخرى ونهجنا في الحوار. ويجسّد لبنان، منذ زمن بعيد هذه الرؤية، حيث يرتفع نداء المؤذّن مع رنين أجراس الكنائس معًا في تسبيح الإله الواحد، الرحمن الرحيم”.
وأضاف: “أدعوكم إلى أن تتحدثوا بجرأة ووضوح عن الأسس الروحية للحوار. ساعدوا المؤمنين في المساج، والكنائس والمدارس والجامعات والعائلات. على أن يروا نوسترا إيتاتي لا كوثيقة تاريخية جامدة، بل كخارطة طريق حيّة لعصرنا. ولتكن المدارس والإكليريكيات والمعاهد والجامعات مختبرات للسلام، يتعلّم فيها الشباب كيف يعيشون معًا بانسجام”.




