تحلّ اليوم الذكرى الثانية لهجوم 7 أكتوبر على إسرائيل فيما الأنظار شاخصة نحو شرم الشيخ التي تحتضن محادثات صعبة ومعقدة لبحث آليات تبادل الرهائن والأسرى ضمن “خطة ترامب” لإنهاء حرب غزة. عامان حافلان بالتطوّرات الدراماتيكية السريعة التي غيّرت وجه المنطقة ولا تزال. عامان “جهنميان” على “محور الممانعة” الذي يرفض أركانه، أقلّه علانية، الإقرار بهزائمهم المدوية وفشل خياراتهم الهدّامة، بل يتباهون بكلّ وقاحة بنصر مزعوم فوق جبال من الركام والجثث. عامان مأسويان بكلّ المقاييس، عاشهما الفلسطينيون بكافة توجّهاتهم وسائر شعوب “المحور” وخصومهم، لم يكونا كافيان لاستخلاص العبر ومواجهة الحقائق الصارخة، لكن الوقت قد فات بكلّ الأحوال. خطّطت “حماس” طويلًا لتنفيذ “عملية انتحارية” بحجم “طوفان الأقصى”، غير مدركة لقصر نظرها الاستراتيجي بفِعل “الحاجز العقائدي”، أن “الطوفان” سيجرفها في النهاية ومعها “المحور” برمّته.
عامان اغتيل خلالهما شخصيات سياسية وعسكرية رئيسية في “المحور”، بعضها أثبتت الأحداث والأيام أنها غير قابلة للاستبدال. عامان سوّيت فيهما مناطق شاسعة من قطاع غزة بالأرض مع استمرار عدّاد القتلى بالدوران. تُعتبر “حماس” السلطة الحاكمة في غزة بعدما أطاحت حكم “فتح” عام 2007، وبدل السهر على تحسين حياة الغزيين المزرية، عمدت إلى إقحام القطاع بمواجهات متتالية غير متكافئة مع إسرائيل، وتوّجتها بـ “طوفان الأقصى” الذي نكَبَ الجيب الفلسطيني وأهله. ما زالت الحركة متمسّكة بسلاحها، رغم سيرها مُرغمة بـ “خطة ترامب” التي تقضي عمليًا بنزعه. السلاح عادة ما يكون في خدمة “قضية شعب”، لكن بمعايير الممانعين، فإن الشعوب وقضاياهم في خدمة “السلاح المقدّس”، ولو هُدّم الهيكل فوق رؤوس الجميع.
ماذا حققت “حماس” للغزيين على مدى سنوات حكمها البائسة؟ لا شيء مفيد بطبيعة الحال. استثمرت الحركة السواد الأعظم من المساعدات المالية التي كانت تصلها للتحضير لـ “ساعة الصفر”، فجَلبت بتوقيت 7 أكتوبر الحرب إلى قلب القطاع ومعها الخراب والدمار والموت. من نافل القول إن الحركات الإسلامية تقتات بالأزمات والنزاعات، وتنمو كالفطريات السامة على “جذوع” مسائل حق تقرير المصير والمظلومية، فتقتل من تدّعي الدفاع عنهم باسم ما هو أسمى وأعظم ويستحق كلّ أنواع التضحيات الجسيمة. والمحصّلة؟ مصيبة تناطح مصيبة حتى تأتي البَليّة القاضية وتغدو المصائب حلمًا مدوّنًا في صفحات التاريخ المليء بالمحن اللامتناهية. بلا نقد ذاتي بناء وعميق، وإعادة نظر جذرية في النهج والمقاربة، ستتوالى صروف الدهر وتزداد سوداوية. والمأزق الكارثي أن التنظيمات العقائدية المتزمّتة لا تجيد النقد الذاتي، فهذا عدوّها الأوّل الذي سيحرص على تفكيكها والقضاء عليها.
أوصلت الحركة نفسها إلى نقطة اللاعودة. رحّبت بـ “خطة ترامب” مُكرهة وأبرزت شروطها لحفظ ماء وجهها، إلّا أن المهزوم أو الضعيف لا يستطيع فرض مطالبه، ولو مهما كابر وعاند، فالكلمة الحاسمة للأقوى، هذا ما تثبته تجارب التاريخ. صحيح أن “حماس” عادت إلى طاولة المحادثات بضغط دولي، بيد أن قدرتها على المناورة والمراوغة والانحراف عن “خطة ترامب” محدودة للغاية، وأي مؤشرات ترصد في هذا السياق ستعطي إسرائيل الضوء الأخضر للعودة إلى تسعير الميدان بمباركة أميركية في أي محطة من محطات الخطة، التي تنتظرها مطبّات فادحة قد تؤخر وصولها إلى خواتيمها أو تحول دون تطبيقها بالدبلوماسية فقط.
يحسم الخبراء أن “حماس” لن تحكم غزة في “اليوم التالي”، هذا سيكون من الأثمان التي ستدفعها عن “خطيئة” هجوم 7 أكتوبر، جازمين أن خياراتها استحالت ضيّقة ومصيرية، فالمسألة أضحت بالنسبة إليها أن “تكون أو لا تكون”. وفي حسابات تل أبيب الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، لا مكان لسلاح الحركة أو غيرها عند خاصرتها الجنوبية الغربية، فلن تسمح بأن يشكّل القطاع خطرًا عليها مستقبلًا، هذا أمر محسوم. وعندما أقول تل أبيب، لا أقصد إسرائيل بقيادة نتنياهو فحسب، بل “العقل الإسرائيلي” الجديد الذي صار ينتهج مقاربة “هجومية – استباقية” في التصدّي للتهديدات الداهمة على الأمن القومي للدولة اليهودية.
لو كان يحيى السنوار ومحمد الضيف لا يزالان على قيد الحياة وعادا بالزمن إلى 6 أكتوبر 2023 وهما يدركان ما سيحلّ بالقطاع من ويلات، أغلب الظن أنهما لن يتردّدا لحظة في إصدار الأوامر لغزو “غلاف غزة” فجر 7 أكتوبر. لكن الأكيد أنهما لن يكونا راضيَين عن وضعية “حماس” الحالية، رغم مسؤوليّتهما المباشرة عنها. وهنا تكمن “عين المعضلة” مع مثل هكذا تنظيمات مؤدلجة، وشخصيات محدودة الأفق، رغم “ذكائها”. انتحرت “حماس” بإطلاقها “الطوفان” ونحرت “محور الممانعة” معها، والطامة الكبرى أن الحركة وكلّ الأذرع لم تتعلّم من دروس 7 أكتوبر القاتلة سوى اليسير.