أخبار عاجلة
إسرائيل تفجّر منزلا في ميس الجبل -
ضربات إسرائيلية على غزة بعد إعلان الاتفاق -
إدارة أزمة النفايات أم إدارة الإنهيار؟ -

“وادي المسيحيين”… هوية محفورة بالدم مع غياب العدالة

“وادي المسيحيين”… هوية محفورة بالدم مع غياب العدالة
“وادي المسيحيين”… هوية محفورة بالدم مع غياب العدالة

كتب زياد البيطار في “نداء الوطن”:

هزت حادثة أليمة واحدة من أكثر مناطق سوريا هدوءًا، حيث أقدم مسلّحون ملثمون يستقلّون درّاجات نارية على إطلاق النار بشكل مباشر على ثلاثة شبّان مسيحيين أمام أحد المكاتب في قرية عناز، الواقعة في قلب “وادي النصارى” بريف حمص، الأربعاء الماضي، ما أسفر عن مقتل الشابين وسام جورج منصور، وشفيق رفيق منصور، وإصابة الشاب بيير حريقص بجروح خطرة. أعادت الحادثة المفجعة إلى الواجهة غياب الأمن والأمان، والمحاسبة، وسط صدمة محلّية ومخاوف من تصاعد الاعتداءات ضدّ مكوّن لطالما كان حجر أساس في النسيج السوري.

ورغم مرور حوالى الأسبوع على الحادثة، فإن أجهزة الأمن السورية لم تُظهر أي تقدّم ملموس في التحقيق أو محاسبة الجناة حتى كتابة هذه السطور، ما أثار استياءً واسعًا في الأوساط المسيحية، وتحديدًا بين أهالي الضحايا الذين يتساءلون عن جدوى الحماية “الوهمية” التي تقدّمها الدولة لمواطنيها، إن لم تشمل أقليات تُستهدف بشكل متكرّر. وصف شهود عيان لـ “نداء الوطن” ما جرى بأنه “قتل مُمنهج”، خصوصًا مع اختيار الضحايا بعناية، واستهدافهم المباشر أمام شهود. لكن في المقابل، تشير مصادر متابعة إلى أن الدوافع قد تكون شخصية أو ثأرية، لا طائفية بحتة، مؤكدة أن الجناة تركوا آخرين كانوا في الموقع من دون التعرّض إليهم، ما ينفي فرضية “الاستهداف الطائفي المباشر”.

تعليقًا على الحادثة، أكدت مصادر سورية مطّلعة لـ “نداء الوطن” أن الدولة تسعى فعليًا إلى فرض الأمن وحماية كافة مكوّنات المجتمع، إلّا أنها تفتقر إلى أدوات حقيقية وإدارة مختصّة بالتعامل مع خصوصية الأقليات، وعلى رأسها المسيحيون. وأوضحت المصادر أن “هناك نية حسنة، نعم، لكن النوايا وحدها لا تصنع سياسة، ما تحتاجه سوريا اليوم هو إدارة جديدة تعي أهمية التنوّع وتحترم التعدّد، وتعمل على صياغة عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين المواطن والدولة”. وكمثال على القصور الرسمي، يُستعاد حادث تفجير كنيسة مار الياس الإرهابي الذي راح ضحيته نحو 25 مدنيًا، بحيث جاءت ردّة فعل الدولة باهتة، خالية من أي مبادرة تراعي الخصوصية الدينية للمكوّن المسيحي، لا على مستوى الخطاب، ولا على مستوى الفعل.

وبحسب المصادر، وفي ظلّ هذا الضعف الرسمي، دخلت على خط الأحداث جهات سياسية، أبرزها الحزب “السوري القومي الاجتماعي”، الذي اعتبر الجريمة فرصة لإعادة التموضع سياسيًا عبر استقطاب المسيحيين وشدّ العصب الطائفي. وتحدّثت المصادر عن أن “السوري القومي” لطالما كان له حضور في الأوساط المسيحية خلال النظام السابق، حتى أن بعض رجال الدين انتموا إليه في مراحل مختلفة. واليوم، تسعى بعض كوادره إلى استغلال الحوادث الأمنية لأغراض سياسية، من خلال خطابات تحريضية تعبّر عن الغضب، لكنها في الواقع توجّه ذلك الغضب بعيدًا من المطالبة بالحلول.

وكشفت المصادر أن الحزب، خصوصًا فرقة “الزوبعة”، لعب أدوارًا عسكرية خلال سنوات الحرب، وتحوّل من تنظيم سياسي إلى ميليشيا مسلّحة انخرطت في معارك داخلية، فيما قام آخرون بأدوار لوجستية كتمويل وتسليح. ومن هذا المنطلق، قد تكون بعض جرائم التصفية الأخيرة نتيجة لصراعات داخلية بين الفصائل المسلّحة التي شارك فيها الحزب أو ارتبط بها.

لم تُثر الحادثة الدامية الأسئلة الأمنية والسياسية فقط، بل أعادت طرح السؤال الهوياتي: لماذا لا يُسمّى الوادي باسمه الحقيقي؟ فـ “وادي النصارى” هو التسمية المتداولة رسميًا، لكنه تسمية مرفوضة من قِبل عدد كبير من أبناء المنطقة، الذين يرون فيها توصيفًا يُعاملهم كأقلية دينية غريبة. في جنازة الشابين منصور، أطلق المطران باسيليوس منصور صرخة مدوية: “لن يُدعى هذا الوادي “وادي النصارى”، بل “وادي المسيحيين”، لأننا نحن على اسم يسوعنا الذي وطئ الموت بالموت، ولن نرضى إلّا أن نكون على اسمه، لا على اسم مكان من الأمكنة”. كلمات المطران كانت أكثر من مجرّد وعظ روحي. كانت موقفًا وجوديًا وهوية سياسية – روحية تعبّر عن رغبة صريحة باستعادة الكرامة والاعتراف بالمكانة الوطنية، لا كمجرّد “مكوّن” داخل دولة تتعامل معه على الهامش، بل كمواطنين أصيلين في وطن يتهدّدهم فيه التهميش أكثر من رصاص الجناة.

عبّرت مصادر كنسية عن خشيتها من استمرار هذا المسار، قائلة: “إذا استمرّ مسار العنف والإفلات من العقاب، ستبقى الكنائس قائمة، ولكن بلا مؤمنين… كما حصل في دول عربية أخرى”. فالهجرة المسيحية من سوريا لم تبدأ مع هذه الحادثة، لكنها تتسارع كلّما تعمّق شعور الانتماء المهدّد، وغياب الأمان، وتآكل العدالة. وفي “وادي المسيحيين”، لا تزال الأجراس تُقرع، لكنها هذه المرّة تقرع وبإلحاح من أجل إنقاذ ما تبقى من حضور حقيقي في الأرض التي وُلد فيها الإيمان، وكتب فيها شهداء الكنيسة القديسين قصّتهم الخاصة، بعيدًا من أي سلطة أو حزب أو حماية خارجية.

“وادي المسيحيين”، ليس في هذا الإسم تحدّ، بل استعادة لهوية حاول البعض دفنها تحت الترهيب والصمت، فالوادي لم يمنحه أحد لأبنائه، ولم يكن هبة من سلطة أو نظام، فهو جغرافيا الإيمان والذاكرة والشهادة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق عقب إعلان ترامب… احتفالات وغارات في غزة
التالى ضربات إسرائيلية على غزة بعد إعلان الاتفاق