كتبت ناديا غصوب في “نداء الوطن”:
بين صور المصافحات الدبلوماسية في شرم الشيخ وتصريحات “السلام التاريخي”، يختبئ مشهد أكثر تعقيدًا: حربٌ توقفت موقتًا لتُستأنف بأدواتٍ جديدة. الاتفاق الذي رعته إدارة دونالد ترامب حول غزة لا يبدو وقفًا للنار بقدر ما هو إعادة تموضع سياسي تمهّد لخريطة نفوذ جديدة في المنطقة، يكون لبنان في صلبها وإيران على أطرافها.
فمنذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، تغيّر المشهد الميداني مرارًا، لكن الثابت الوحيد كان عجز الطرفين عن الحسم.
إسرائيل خرجت مثقلة بالفشل السياسي والضغط الدولي، و “حماس” أنهكتها الحرب والحصار لكنها خرجت على الخراب وتستعدّ للخروج من المشهد بشكلٍ نهائي بعد موافقتها على خطة ترامب.
لذلك، جاء الاتفاق الأخير تتويجًا لنصر أميركي، وجهدٍ مشترك بين القوى المنخرطة.
هو هدنةٌ اضطرارية، وليس سلامًا استراتيجيًا.
كل طرف يلتقط أنفاسه، يعيد ترتيب أوراقه، وينتظر الجولة المقبلة.
واشنطن تدرك أن الحرب استنزفت الجميع، لكنها رأت في لحظة الضعف هذه فرصة لفرض رؤيتها الكبرى: خطة ترامب للشرق الأوسط الجديد، حيث تُعاد صياغة العلاقات والحدود والتحالفات على مقاس المصالح الأميركية – الإسرائيلية.
اللافت أن تصريحات ترامب عن لبنان خلال مراسم التوقيع لم تكن صدفة.
حين قال إن “لبنان يسير في الاتجاه الصحيح لتطهير نفسه من الميليشيات”، كان في الواقع يرسل تحذيرًا مبطّنًا لـ “حزب اللّه”، ورسالة دعم رمزية للجيش اللبناني.
واشنطن لا تريد حربًا جديدة على الجبهة الشمالية، لكنها تسعى إلى تحييد لبنان قسرًا.
تريد دولة بلا سلاح موازٍ، وجبهة ساكنة تكمّل هدوء غزة، ضمن معادلة “الأمن مقابل الدعم”.
إلّا أن هذه المقاربة تصطدم بواقع لبناني شديد التعقيد: فالدولة لا تملك القدرة ولا الغطاء الداخلي لتفكيك معادلة “الجيش والمقاومة”. و “حزب اللّه”، رغم الضغوط والعقوبات، ما زال يمتلك قوة عسكرية وردعية تفوق قدرة أي طرف محلي على مواجهتها.
وبذلك، يظهر أن كلام ترامب عن لبنان أقرب إلى رغبة استراتيجية منه إلى خطة قابلة للتنفيذ.
إنه يهيّئ المسرح لمعادلة جديدة، حيث يتحوّل لبنان إلى ساحة تفاوض وإلّا إلى ساحة حرب.
في الظاهر، يبدو أن الاتفاق همّش إيران.
لا حضور رسميّ، ولا دور مباشر في التوقيع، ولا ذكر في البيانات.
لكن في الباطن، تدرك واشنطن وتل أبيب أن اليد الإيرانية لم تُقطع من غزة ولا من لبنان، بل أُجبرت على الانحناء موقتًا أمام العاصفة.
طهران تعتبر الاتفاق وقفًا موقتًا للنزيف، وليس نهاية اللعبة.
فما دام حليفاها، “حماس” و “حزب اللّه” باقيين على الأرض، فإن نفوذها باقٍ أيضًا.
إيران اليوم تلعب على عامل الوقت، تراقب، تساوم، وتحتفظ بورقة الضغط الميداني إذا قرّرت واشنطن أو تل أبيب كسر التوازن.
وبينما يقول ترامب إنه “مستعد للاتفاق مع إيران عندما تكون جاهزة”، تُجيب طهران عمليًا: لسنا جاهزين للخضوع، بل للتفاوض من موقع قوّة لاحقًا.
الشرق الأوسط بعد اتفاق غزة ليس أكثر أمانًا، بل أكثر هشاشة.
فوقف النار في غزة لم يُنهِ المسببات، بل علّقها في الهواء:
المقاومة لم تُهزم، وإسرائيل لم تنتصر، والولايات المتحدة لم تفرض سلامًا بل هدنةً بموقت سياسي.
في هذا السياق، يتحوّل لبنان إلى الحلقة الأضعف والأخطر في آن:
الأضعف لأنه محاصر بأزمة اقتصادية وسياسية عميقة.
والأخطر لأنه يحمل في داخله توازنًا هشًا بين الدولة والسلاح، بين الانقسام والحياد، بين الانفجار والانكماش.
النتيجة أن أي خلل في تطبيق اتفاق غزة أو أي تصعيد إسرائيلي، قد ينعكس فورًا على الجنوب اللبناني، حيث تبقى الجبهة مفتوحة ولو بصمت.
الاتفاق الذي روّج له ترامب كـ “صفقة القرن الثانية” ليس سوى هدنة على فوهة البركان.
فالمشهد الحقيقي لا يُرسم في المؤتمرات، بل في الميدان، حيث ما زال كل طرف يحتفظ بسلاحه وخطابه واستعداده للجولة التالية.
لبنان في عين العاصفة – ليس كطرف مباشر في الحرب، بل كميزان حسّاس بين واشنطن وطهران.
وإيران وإن بدت محاصرة، إلّا أنها تملك أدوات الردّ.
أما إسرائيل، فهي تعيش حالة انتصارٍ بلا مجد، وتهدئةٍ بلا ثقة.
بكلمة واحدة، المنطقة دخلت مرحلة توازن الرعب السياسي:
الكلّ ينتظر، الكلّ يفاوض، والكلّ يعرف أن الحرب… لم تنتهِ بعد.