في عرض مبهر يشبه قصص ألف ليلة وليلة، افتُتح المتحف المصري الكبير بمشاركات من كلّ أنحاء العالم، من طوكيو إلي ريو دي جانيرو ونيويورك. لحظة تتجاوز حدود الزمان والمكان، شدّت انتباه العالم وتسمّر الآلاف أمام الشاشات للمشاركة بالحدث العظيم.
أمام واجهته المهيبة الممتدة على هضبة الجيزة، حيث تُظلّل الأهرامات الرمال الذهبية التي كشفت لنا بشوقٍ وكرمٍ كنوز القدماء، وقف الحضور. الأضواء تنساب على الواجهة الحجرية لتُعيد رسم ذاكرة مصر منذ آلاف السنين، فيما الموسيقى الأنيقة تصدح بعزفٍ حيّ، في خليط من الأوركسترا الحديثة والإيقاعات الكلاسيكية، تُحوّل معها الصرح إلى مسرح أسطوري للذاكرة والهوية.
“شهادة على عبقرية المصري”
تسلّم الزعماء والقادة المشاركين مجسّماً صغيراً للمتحف المصري الكبير، وكلّ مجسم يحمل اسم دولة ليضع قادتها قطع بلادهم بأيديهم رمزاً لمشاركتهم باحتفالية الافتتاح. ووضع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القطعة الأخيرة التي تُمثّل مصر، معلناً الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير.
واعتبر السيسي أنّ “المتحف المصري الكبير صورة مجسّمة تنمّ عن مسيرة شعب سكن أرض النيل منذ فجر التاريخ، فكان ولا يزال الإنسان المصري دؤوباً، صبوراً، كريماً، بنّاءً للحضارات صانعاً للمجد، معتزاً بوطنه، حاملاً راية المعرفة ورسولاً دائما للسلام”، مؤكّداً أنّ “مصر ظلّت على امتداد الزمان واحة للاستقرار وبوتقة للثقافات المتنوعة وراعية للتراث الإنساني”.
ولفت إلى أنّ “المتحف شهادة حية على عبقرية الإنسان المصري الذي شيّد الأهرام ونقش على الجدران سيرة الخلود، شهادة تروي للأجيال قصة وطن ضربت جذوره في عمق التاريخ الإنساني، ولا تزال فروعه تُظلّل حاضره ليستمر عطاؤه في خدمة الإنسانية”.
سينوغرافيا مُتقنة
الافتتاح احتفال بالخلود؛ وعند المدخل، استقبل تمثال رمسيس الثاني الحضور شامخاً، يراقب المشهد بعيني أبٍ يحرس داره. بين الأعمدة العالية والأنوار الذهبية التي تلامس الوجوه، كُتبت تفاصيل العمارة والديكور بلغة الجلال. وفي الخارج، على المسرح المهيب، أضفت السينوغرافيا المُتقنة بُعداً رمزياً شديد الكثافة على الحدث: الأضواء تتبدّل برفقٍ، الأصوات تتناوب بين الماضي والحاضر، والسيناريو يروي قصة الإنسان الذي سكن هذه الأرض وشيّد معابدها وأهراماتها ونقش ملوكها ولغتها.
قدّمت الفنانة المصرية شيرين أحمد طارق عرضاً موسيقياً من تأليف الموسيقار هشام نزيه، وتحت قيادة المايسترو ناير ناجي. وشهد الافتتاح عودة الفنانة شريهان التي أضفت سحرها على مقطوعات موسيقية منها “Le Martyre de saint Sébastien” للموسيقي الفرنسي كلود ديبوسي، و”Five Fanfares for the Jubilee of Rimsky Korsakov” للروسي أناتولي ليادوف، و”Fanfare Pour Preceder la Peri” للفرنسي بول دوكا.
30 سلالة وخمسة آلاف عام
الاحتفال المهيب جاء ليُثبّت الحضور المصري، أكثر فأكثر، على الخريطة السياحية العالمية. افتتاح المتحف الذي يُغطّي مساحة تقارب نصف مليون متر مربع، جاء بعد إرجاء متكرّر، وقد استغرق بناؤه أكثر من 20 عاماً، بتكلفة بلغت أكثر من مليار دولار. وتُفاخر مصر بأنّ متحفها الجديد يضمّ أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، نصفها سيكون معروضاً، ما يجعل منها أكبر مجموعة في العالم مخصصة لحضارة واحدة، شهدت مرور 30 سلالة على مدى خمسة آلاف عام.
الموسيقى في خلفية الحفل كانت تضبط الإيقاع الداخلي للزيارة؛ مزيج من الحنين والرهبة. أزياء الحضور، بين الرسمية المبهرة والأناقة الشرقية، بدت جزءاً من العرض نفسه. هنا، التقى الفنانون والديبلوماسيون والمثقفون في لحظة نادرة من التوحّد مع الإرث الإنساني. والعرض الموسيقي جمع موسيقيّين من كافة أنحاء العالم، جزء منه كان موجوداً فعلياً في المتحف، وامتزج به في الشاشات الخلفية عرض آخر مصوّر لموسيقيين من أمام أبرز المعالم السياحية والثقافية للمدن الكبرى.
المقر الأخير لرمسيس وتوت عنخ آمون
سيكون المتحف المصري الكبير المقر الأخير لتمثال الملك رمسيس الثاني الضخم الذي يزن 83 طناً ويبلغ ارتفاعه 11 متراً، بعدما تنقّل مراراً منذ اكتشافه عام 1820 قرب معبد ممفيس جنوب القاهرة.
وفي المتحف أيضاً قاعة مخصصة لتوت عنخ آمون، تضم كنوز الفرعون الذي يُعدّ الشخصية الأعظم في مصر القديمة. يُعرض فيه أكثر من 4 آلاف و500 قطعة جنائزية من أصل 5 آلاف قطعة اكتشفها عالم الآثار البريطاني هاورد كارتر عام 1922 في مقبرة سليمة في وادي الملوك.
كذلك، صُمّم مبنى منفصل بمساحة 4 آلاف متر مربع خصيصاً لاستضافة المركب الشمسي للفرعون خوفو، المصنوع من خشب الأرز والأكاسيا، والذي بُني قبل نحو 4 آلاف و600 عام، ويبلغ طوله نحو 43,5 متراً، وقد اكتُشف عام 1954 في الركن الجنوبي من أكبر الأهرامات الثلاثة.
ويمكن للزوار عبر جدار زجاجي، مشاهدة أعمال الترميم الدقيقة الجارية على مركب شمسي ثانٍ اكتُشف عام 1987، ونُقل في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين قرب الهرم نفسه.




