كتبت ناديا غصوب في “نداء الوطن”:
لم تكن زيارة البابا إلى بيروت قبل أيام مجرد محطة بروتوكولية تُضاف إلى سجل العلاقات بين الفاتيكان ولبنان. بل بدت، في توقيتها ورسائلها وما سبقها من تحرّكات خلف الكواليس، كأنها عملية سياسية مركّبة أعادت ترتيب موازين القوى في المنطقة وفتحت ثغرة في جدار الجمود الذي حكم الملف اللبناني لوقت طويل.
المعلومات التي تسرّبت من دوائر دبلوماسية غربية تفيد بأن الزيارة لم تكن فكرة لاهوتية أو رعوية فقط، بل ثمرة مسار سياسي بدأ قبل أسابيع، حين دخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مباشرة على خطّ التواصل مع الفاتيكان. فتحت غطاء روحي، أراد الفاتيكان تمرير مبادرة تتعلّق بـ “الميكانيزم” المدني والسياسي الذي يعمل عليه لبنان منذ أشهر، لكن تنفيذ هذه المبادرة كان مستحيلًا من دون موافقة إسرائيلية أولية.
هنا لعب ترامب دورًا حاسمًا. فبحسب المصادر نفسها، استخدم الرئيس الأميركي أدوات الضغط السريعة التي يمتلكها على حكومة تل أبيب: رسائل عاجلة، اتصالات على مستوى رفيع، وتحذيرات غير معلنة حول ضرورة استيعاب المتغيّرات الدولية الجديدة. والهدف كان واضحًا: إجبار إسرائيل على التعامل بجدّية مع الإطار التفاوضي الجديد الذي يسعى لبنان إلى وضعه على الطاولة، بدعم فاتيكاني يريد الحفاظ على “الكيان اللبناني” كجسر بين الشرق والغرب.
وبفعل هذا المناخ المستجد، سارع رئيس الجمهورية جوزاف عون، إلى إعلان تشكيل لجنة رسمية لإدارة “الميكانيزم” برئاسة السفير السابق سيمون كرم، المعروف بخبرته في الملفات الدقيقة وقدرته على العمل في البيئات الحساسة. وتشير مصادر سياسية إلى أن اختيار كرم ليس تفصيلًا، بل رسالة واضحة بأن لبنان يريد التفاوض من موقع مهني وتقني وهادئ، بعيدًا من الشعارات والتوترات الداخلية.
اللجنة، وفق التفويض الممنوح لها، ستكون الصيغة اللبنانية الوحيدة المخوّلة التواصل مع الجانب الإسرائيلي، بما يسمح بترتيب مراحل تفاوضية مدروسة من دون الانجرار إلى تنازلات سياسية مباشرة.
ورغم هذا الضغط الأميركي – الفاتيكاني المشترك، حافظت إسرائيل على مقاربتها التقليدية في التعامل مع الملف اللبناني، مثبتة ثلاثة مواقف صلبة:
1. رفض مطلق لوقف إطلاق النار مع “حزب الله” عند توافر أي معطيات أمنية تبرّر استمرار العمليات.
2. لا نية سياسية للدخول في مسار سلام مع لبنان في الوقت الراهن، لأسباب مرتبطة بالداخل الإسرائيلي أكثر مما هي مرتبطة ببيروت.
3. تركيز استراتيجي كامل على غزة، مع التعامل مع لبنان كساحة ثانوية يمكن تفعيلها أو تهدئتها وفق مصلحة الجيش الإسرائيلي، مستندة إلى وجود سلاح “حزب الله” شمال الليطاني لتبرير أي تعطيل سياسي.
هذه المقاربة تُظهر أن إسرائيل ليست في وارد منح لبنان أي مكاسب مجانية، مهما كانت الضغوط الدولية كبيرة، لكنها في المقابل تدرك أن دخول ترامب والفاتيكان معًا على الخطّ ليس تطورًا يمكن تجاهله.
لكن العقدة الأعمق تكمن داخل “حزب الله” نفسه. فبحسب معطيات خاصة بنداء الوطن (غير مؤكدة بالكامل)، فإن الجناح العسكري لـ “الحزب” يخضع عمليًا لتوجيه مباشر من ضباط في الحرس الثوري الإيراني، في حين يحاول الجناح السياسي الحفاظ على التوازن الداخلي والتواصل مع الدولة اللبنانية. وبعد غياب حسن نصرالله، برز الانقسام بين المستويين أكثر من أي وقت مضى، ما جعل قرار الحرب والسلم داخل “الحزب” موزعًا بين إرادتين لا تتطابقان بالضرورة.
هذا الواقع يجعل احتمال أي تفلّت عسكري أمرًا قائمًا في أي لحظة، خصوصًا في ظل وجود مجموعات ميدانية تعمل وفق ارتباطات إقليمية تابعة للحرس الثوري ولا تخضع بالكامل للحسابات اللبنانية.
في موقف سياسي لافت، حذر الشيخ نعيم قاسم من أن أي تماهٍ مع إسرائيل يشبه “ثقباً في السفينة” من شأنه إغراق الجميع، مؤكدًا أن “حزب الله” ماضٍ في الدفاع عن لبنان وأهله حتى أقصى حدود التضحية، من دون أي نية للتراجع أو الاستسلام. واعتبر قاسم أن “الحزب” لا يزال متمسّكًا بـ “عهد الشهداء” وبالمسار الذي رسمته المقاومة، موجهًا انتقادًا حادًا لمشاركة الوفد المدني في لجنة “الميكانيزم”، التي وصفها بـ “التنازل المجاني” وبأنها تخالف الشرط الأساسي القاضي بوقف العدوان الإسرائيلي قبل أي نقاش تقني.
وفي الشأن الداخلي، شدّد على أن “الحزب” لن يلتفت إلى من يصفهم بـ “خدّام إسرائيل”، في مقابل استعداده للحوار مع القوى السياسية والمواطنين ضمن إطار استراتيجية دفاعية وطنية موحّدة. وذهب قاسم إلى اعتبار التصعيد الإسرائيلي الذي أعقب اجتماع الوفد المدني دليلًا على رغبة تل أبيب في إبقاء لبنان تحت الضغط والنار لفرض أجندتها بالقوة.
إن التهديد الحقيقي للبنان اليوم لا يكمن في ثنائية طائفية أو انقسام سياسي تقليدي، بل في ثنائية القرار داخل “حزب الله”. وإذا انفجرت هذه الثنائية، فإن تداعياتها لن تقتصر على عزل “الحزب” دوليًا، بل قد تدفع لبنان إلى حافة انهيار وجودي، في مرحلة يُعاد فيها رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط بوتيرة متسارعة.
وسط هذا المشهد، تبدو زيارة البابا مؤشرًا على أن العالم لا يزال يرى في لبنان مساحة تستحق الإنقاذ، لكن شروط هذا الإنقاذ باتت أكثر تعقيدًا، وتتطلّب من القوى اللبنانية قرارات حاسمة قبل أن يفوت الأوان.




