كتب أنطوان الأسمر في “اللواء”:
يأتي الحراك المصري في لحظة دقيقة من عمر الأزمة اللبنانية ـ الإسرائيلية، حيث يتقاطع اشتداد التهديدات العسكرية مع ضغوط سياسية أميركية متصاعدة، وقلق عربي من انزلاق الجبهة الشمالية إلى مواجهة شاملة قد تطيح بما تبقَّى من الاستقرار الإقليمي. فالمشهد لم يعد محصوراً في نطاق الجنوب أو ضمن معادلة حزب الله ــ إسرائيل، بل بات متشابكاً مع حسابات أكبر تتعلق بالنفوذ الإيراني، وبالفراغ الذي يتركه أي تراجع في الدور الغربي في إدارة الصراعات الشرق أوسطية.
في هذا السياق، برز التحرك المصري كمحاولة لتثبيت مقاربة وسطية بين منطق القوة ومنطق التسويات، عبر خطة وصفتها الأوساط الديبلوماسية بأنها الأكثر تماسكاً منذ حرب تموز 2006. ولم تكن زيارة مدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد إلى بيروت مجرّد جولة استطلاعية، بل حملت ما يشبه ورقة عمل مفصلة تستند إلى رؤية مصرية ـ عربية أوسع، تهدف إلى منع لبنان من أن يتحوّل ساحة تصفية حسابات إقليمية جديدة، وتحديداً بين إسرائيل وإيران.
يقوم جوهر الخطة على هندسة توازن جديد بين الأطراف، ويقوم على ثلاثة مستويات مترابطة: أمني، سياسي، وإقليمي.
١-في المستوى الأمني، تقترح القاهرة وقفاً متبادلاً لإطلاق النار وانسحاباً إسرائيلياً كاملاً من النقاط التي احتُلت حديثاً، مقابل التزام حزب الله بتجميد نشاطاته العسكرية جنوب الليطاني وخارجه.
٢- في المستوى السياسي، تركّز الخطة على استحداث آلية تفاوض برعاية عربية ـ تركية، بديلة جزئياً عن الأمم المتحدة، لضمان متابعة البنود التنفيذية ومنع أي طرف من الانقلاب على الاتفاق. هذا الطرح يشكّل خروجاً عن المألوف، لأنه يسعى إلى مراقبة عربية – إسلامية ميدانية، بما يعيد للدور العربي وزناً غائباً منذ سنوات طويلة.
٣-يبقى المستوى الإقليمي للخطة المصرية هو البُعد الأكثر دقة وحساسية. إذ تفترض القاهرة أنّ حل الأزمة اللبنانية لا يمكن أن يتمّ من دون تفاهم ضمني بين طهران والرياض، أو على الأقل من دون تحييد لبنان عن التجاذب الإيراني ـ الدولي. لذلك، يجري تسويق المبادرة على أنها لا تستهدف سلاح حزب الله مباشرة، بل تحاول وضعه في حالة خمول استراتيجي، بحيث يُحافظ الحزب على سلاحه من دون أن يستخدمه أو يطوّره، في مقابل التزامات لبنانية ـ عربية بضمان أمن الجنوب ووقف الخروق الإسرائيلية.
اللافت في الطرح المصري أنّه يبتعد عن الخطاب التقليدي الذي يربط أي حلّ بنزع السلاح، مكتفياً بفكرة التجميد المتدرّج باعتبارها مقاربة واقعية تتيح هدنة طويلة الأمد. وهذه الصيغة تمنح جميع الأطراف مخرجاً مشرفاً: إسرائيل تحصل على ضمانات أمنية، لبنان يتفادى الانفجار، وحزب الله يحتفظ برمزيته من دون خسارة مكانته السياسية في الداخل.
لكن رغم ما تبدو عليه الخطة من توازنات دقيقة، فإنها لا تخلو من إشكاليات. إذ يطرح إشراف قوة عربية ـ تركية مشتركة على الجنوب تساؤلات حول السيادة اللبنانية، كما أنّ غياب الموقف الإسرائيلي الرسمي يجعل المبادرة أقرب إلى جسّ نبض منه إلى اتفاق قابل للتنفيذ. أما داخل لبنان، فإن المواقف ستتباين بين من يرى فيها فرصة لإنقاذ البلد من الانهيار الأمني، وبين من يعتبرها خطوة لتدويل الأزمة بشكل متجدد.
في الموازاة، تبدو واشنطن حذرة في التعاطي مع الطرح المصري. فهي وإن كانت تشجع أي جهد يخفف التوتر، إلا أنها تفضل أن تبقى المبادرات تحت المظلة الأممية، خشية أن يؤدي التمدد العربي ـ التركي إلى التأثير في نفوذها. ومع ذلك، قد يمنح التقاطع بين واشنطن والقاهرة في أولوية الاستقرار الخطة زخماً، خصوصاً إذا دعمتها عواصم خليجية قادرة على تأمين التمويل والمظلة السياسية.
عملياً، تُقرأ المبادرة المصرية كخطوة في مسار أوسع لإعادة تموضع عربي في الملف اللبناني، بعدما أثبتت التجربة أنّ ترك الساحة للبُعد الدولي وحده أنتج فراغاً وفوضى. فالقاهرة تراهن على أن مقاربة الأمن مقابل الهدوء لا تزال قابلة للحياة، شرط أن تترافق مع معالجة تدريجية للملفات الشائكة، من ترسيم الحدود البرية إلى إطلاق الأسرى وإعادة الإعمار.
في المحصّلة، تُعيد الخطة المصرية رسم خطوط تماس جديدة في المشهد اللبناني ــ الإقليمي. فهي لا تَعِدُ بحلّ جذري، لكنها تطرح معادلة تهدئة قابلة للصمود إذا توافرت الإرادة السياسية. وإذا نجحت القاهرة في انتزاع موافقة مبدئية من بيروت وطهران، فإنّها قد تضع الأساس لأول مسار تفاوضي عربي يعيد للبنان دوره كدولة تفاوض لا كجبهة صراع، ويعيد لمصر مكانتها كوسيط بين منطق المقاومة ومنطق الدولة، في لحظة تشتد فيها الحاجة إلى تسويات واقعية تقي المنطقة شرّ الانفجار الشامل.




